محاسن السيسي

الواقعية تؤكد إذن أن السيسي لديه بعض المحاسن، لكنها مثل محاسن زعيم عصابة قاتل قد يتبرع لبناء مسجد، أو ينصر امرأة مظلومة، أو ينقذ كهلاً من مأزق.

 

(1)

يجتهد السيسي في تلميع صورته، ويسعى بهوس محموم لإثبات أنه رجل المعجزات، مؤكدا في كل لقاء أنه جاء بما لم يأت به أحد من قبل، ويغضب بصدق عندما لا يرى نظرة الانبهار في عيون الناس، ولغة الشكر والثناء على ألسنتهم، فيعيد التأكيد على إنجازاته كما يتصورها، ويسرف في تقديم وعود جديدة تبشر الناس بامبراطوريته الخاصة التي اختار لها اسم “أد الدنيا”.
والخطير في هذا “الهوس السيساوي” أنه يسهم في تقسيم الناس، خاصة المتطرفين في نظرتهم للأمور، فهناك من يرى المعجزات ويصدق وعود الحاكم الذي استلم البلد “خرابة” فسعى لتحسين كل شيء من الصفر بعد عقود من الأنظمة الفاشلة، وكذلك بعد حالة الفوضى والخراب التي تسببت فيها “مؤامرة يناير”، وفي المقابل هناك من ينفي أي محاسن للسيسي، ويسخر من أي إنجاز حققه سواء كان طريقا أو مزرعة سمكية أو إصلاحاً بعيون جريئة.

(2)

بطبيعة الحال لا يوجد حاكم في التاريخ، ولا رئيس عصابة، ولا مجرم سادي خطير، إلا ولديه جانب إنساني وأفرادا يرتبطون به، وإنجازات قام بها، حتى فترات الاستعمار والظلم والنهب كانت لها إنجازات ورثتها المستعمرات بعد زوال الاستعمار، واعتبرتها جزءا من تاريخها تباهي به، لكن هذا لا يعطي الحق لأي عاقل أن يدافع عن استعمار بلاده، وأن يمدح سياسة النهب لأن المستعمر شق طريقاً أو بنى قصراً سيتحول في يومٍ من الأيام إلى مزار للسياح يدر علينا الربح والفخر، فقد انتهت هذه النظرة المجتزأة للسلطة بانتهاء العصور الوسطى وبقايا الحكم الاقطاعي في أوربا، لكن الشعوب التي تختلفت عن التطور ما زالت تعيش في ذلك الزمن، ومازالت تنظر للحاكم نظرة العبيد لأمراء يتمتعون بسلطات مطلقة، ولا يجب منازعتهم حتى في “حق الليلة الأولى”، ومن يريد أن يعرف معنى تعبير “حق الليلة الأولى” فليبحث عنه باستفاضة ويفهم منه المغزى الذي يلائمه.

(3)

الواقعية تؤكد إذن أن السيسي لديه بعض المحاسن، لكنها مثل محاسن زعيم عصابة قاتل قد يتبرع لبناء مسجد، أو ينصر امرأة مظلومة، أو ينقذ كهلاً من مأزق، لكن هذه التصرفات الفردية لا يمكن النظر إليها باعتبارها سياسة تلتزم بدستور، وتخضع لقواعد وأخلاق يمكن القياس عليها لتحقيق المساواة بين الناس. 
 فالسياسة ليست مآثر متفرقة يتمتع بها أفراد، أو إنجازات للمفاخرة لا تخدم حياة جميع السكان بالتساوي ومن دون تمييز، فقد يكون في قريتك أو مدينتك معلم جيد أو صانع خبز أمين أو طبيبة حانية، لكن لديهم بعض العيوب مثل العصبية أو خشونة اللغة أو عدم الانضباط، وهذه صفات يجب السعي لتعديلها دون حذف أصحابها، لأنهم “جيدون لديهم بعض العيوب”، بينما يوجد في المدينة ذاتها أو القرية مجرم فاسد الخلق أو ثري فاسد يسرق ويغتصب ويبطش، وإن كانت لديه بعض المميزات مثل التبرع لإعمار مسجد أو تزويج ابنة الخادمة أو توزيع كساء على الفقراء في الأعياد، مثل هذا الشخص “سيء لديه بعض المميزات”، وهذا المثال يذكرني بحكاية “ساعة بابيني”.

(4)

جيوفاني بابيني فيلسوف إيطالي مثير للجدل، كتب في واحد من مؤلفاته الفلسفية قصة رمزية عن ساعة عجيبة، كانت معلقة على جدار بيته، وكانت تحفة أثرية موروثة تحمل بصمات تاريخ مجيد، لكنها معطلة تماما، ومع ذلك لم يهتم بإصلاحها مع أنه كان يهتم كل يوم بتنظيفها وتلميعها ودعمها بالهوية البصرية والتسويق الإعلاني، والعجيب أنه كان ينظر باهتمام إلى عقاربها المشلولة، ويتأمل جمال الساعة ويحكي لضيوفه عنها كثيراً، من دون أن يفكر في إصلاحها، وكان يوهم نفسه أن الساعة تعمل بانضباط لكنها لا تظهر للناس ذلك (للوقاية من خبث أهل الشر).
فقد لاحظ أن ساعته العجيبة تحيا مرتين في اليوم: مرة بالليل وأخرى بالنهار، حيث يتطابق توقيتها بدقة مع كل ساعات العالم ( تعرفون طبعاً أن العجب العجاب الذي رآه الرجل في ساعته المعطلة ليس إلا صفة عادية تحدث لأي ساعة معطلة حيث يتطابق توقيتها مع التوقيت السليم مرتين)، لكن المغزى الفلسفي يوهم السذج أن الساعة عجيبة، أو أنها تحس بتخلفها وتعطلها، فتشعر بالغيرة، وتحاول ولو بشكل جزئي ورمزي تقليد الناجحين المنضبطين، فتشعر بالعظمة وأنها “أد الدنيا”.

(5)

أظنكم فهمتم أن “ساعة حبابيني” هي حياتنا كلها، هي رمز التخلف المصبوغ بخرافات “العجب العجاب”، والرغبة في إضفاء الأساطير على حياة معطلة، ربما تتشابه مع العالم المتقدم من حولنا، لكنه تشابه سطحي عابر لا يقوم على مواكبة وانضباط، وإنما على لقاء السائر بالنائم في مضمار السباق، فكل لفة يقطعها السائر سيلتقي بالنائم في المضمار لكن المسافة تتسع مع كل لقاء.
والأخطر من ذلك عندما يموت بعض الراقدين في نهر المضمار، فيسدون المسارات ويصبح من الضروري رفع الجثث من الطريق لتستمر الحركة وتدور ساعة بابيني المعطلة، وهذا المفهوم (مفهوم دفن الجثث) كان شعاراً فكرياً وفلسفياً وعملياً ساعد على تحقيق النهضة الأوربية، فقد ادرك المفكرون أن المفاهيم القديمة في الحكم وطبيعة العلاقات بين الناس وبعضهم من جهة، وبين الناس والسلطات الحاكم من جهة أخرى، قد صارت جثثاً لا تفيد، والإبقاء عليها لن يفيد بشيء، بل ينشر العفن ويعطل الحياة ويؤذي الأحياء، لهذا لابد من الانتباه لجثث المفاهيم التي تهدد حياتنا.. مثل الزعيم الفرد، ومجتمع القبيلة، وسمعة مصر، وخير جنود الأرض، ومؤامرة هدم الدولة… إلخ

(6)

أيها الأحباء

كفانا تمسكاً بالتخلف، كفانا دفاعاً عن نموذج دولة مملوكية سقطت أمام التاريخ في صدمة اللقاء الحضاري مع الحملة الفرنسية، كفانا دفاعا عن البطريركية، وعن الطاعة العمياء، وعن الحقوق المطلقة للحكام، وعن خطورة الحرية على هيبة الدول.. لابد من دفن هذه المفاهيم التي ماتت منذ زمن طويل، بينما نصر نحن على تنصيبها العرش في قصور الحكم وفي الجامعات وفي الصحف ووسائل الإعلام وفي معظم مجالات حياتنا.. إن تعطير جثة لا يعني أنها أصبحت جاهزة للقيام بعمل أو الذهاب لموعد حياة، فالعطر لن يغير من حقيقة قاطعة وهي أن الجثث لا ينبغي أن تزاحم الأحياء وتقودهم أحيانا.. الجثث ليست صالحة للحياة، ولا حل صحيح وكريم إلا دفنها.

(خاطرة بعد المقال)

إذا صرنا نباهي بمنجزات المحتل القديم، فنحتفظ باسم الإسكندرية تخليدا لذكرى الإسكندر المقدوني، كما نعتني في متاحفنا بموروثات اليونان والرومان والفرس وكل من دخل مصر غازياً أو طامعاً، فإن هذا لم يحدث إلا بعد زوال شر الاحتلال فأصبح بالإمكان تمصير المنجزات المادية واستخدامها لصالح الشعب، وهذا يعني أن السيسي أمامه فرصة وحيدة قد تيسر لنا رؤية إنجازاته و”عجبه العجاب”، وهي أن يرحل بلا رجعة حينها قد يتحدث الناس عن “محاسن السيسي”، تطبيقا لنصيحة: اذكروا محاسن…

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه