العدالة والقانون.. أولا: العراق مثالا

حين تتأسَّس أيُّ دولة، بأجهزتها المكتملة، والفاعلة، على أسس غير عادلة، أو ناجعة، فالنتيجة أنها حتى لو أرادت الإصلاح، أو تخفيف الظلم، وأسباب الغضب الشعبي- وهو لا بدَّ حاصل- فإنه ليس من المَيْسُور عليها فِعْلُ ذلك، في الوقت المناسب، على الأقل. فقد يتَّسع الخرقُ على الرَّاتق. وهذه الحالة السياسية الفكرية غير السويّة تنتج تأزُّمًا في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة والشعب، يُضعِف كلًّا منهما.

هذا ما يحدث في دول عربية عدّة، ومنذ عقود، وكنّا نراه ماثلا في لبنان، المُرَكَّبة دولتُه تركيبا طائفيا، يُبقِيه في أزمات بنيوية، ومعيشية حيوية، لا تكاد تهدأ حتى وصل الأمر إلى أزمة النفايات التي تراكمت، وسبَّبت أمراضا، فضلا عن تشويه صورة بعض مناطق لبنان الجمالية التي طالما كانت مَفْخَرة، ليس للبنان فقط، ولكن للعرب. 

العدو المتربص

وبالنظر إلى هذا الخلل البنيوي الذي لا يعدَم نتائج أقلُّ ما توصف به أنها مزعجة، ومُرْبِكة، فإن الدولة محتاجة إلى غطاء، أو ذرائع تُعيِنها على الاستمرار بهذا الخلل، وعادة ما يُلجَأ إلى التخويف من عدوّ خارجي متربِّص، وهذه الذريعة، أو الآليَّة، قد لا تقتصر على الدول المأزومة بنيويا، فقد يستفيد منها الساسة، في دول قويَّة، في مرحلة معينة، من أجل تفادي ضرر الخصوم الداخليِّين، أو من أجل توفير أرضيَّة مريحة للعمل، بعيدا عن المحاسبة والمساءلة والنقد.

 وهنا نستذكر المَكارثيَّة التي قامت بتوجيه الاتِّهام بالتآمُر والخيانة لكلِّ مثقف، أو حتى إنسان عاديٍّ في أمريكا، بعدم الولاء للبلاد والأمة، مستفيدةً بالتخويف والتهويل من الشيوعية، وقد أسهمت غوغائيِّتُها ومبالغاتُها في إنهائها، بعد دحض خطابها. وكانت النتيجة الثمينة التي خلصت إليها الولاياتُ المتحدة، آنذاك، هي أنّ أيَّ خطر خارجي على أمريكا يجب أن لا يُواجَه على حساب الدستور والحريات الأمريكية.

 وهذه الفترة التي تتحصَّن فيها النُّظُم، أو الحكومات، أمام المساءلة والنقد بالأخطار تطول أو تقصر، بحسب قوة الدولة في فكرها، وفكر الأوساط السياسية، وبحسب فاعليَّة مؤسساتها، وحرية وسائل الإعلام، كما تستفيد تلك النزعة، بالطبع، كلما كان الخطر الخارجيُّ الفعليُّ شديدا وملموسا، وفي حالة ضعفه فإن زيادة الشعور بالظلم شعبيا، من شأنه أن يُنَحِّي هذه الذرائع جانبا.

وهذا ما حدث، تقريبا، في العراق الذي أحسّ الناسُ فيه بتراجُع خطر داعش الذي كان ينتهج القتل والاعتداء، والتنظيمات المشابهة له، وسط زيادة الشعور بتفاقُم التردِّي في الأوضاع المعيشية التي لم يكن بالإمكان السكوتُ عليها، أو التعايُش معها، سواء من حيث نوعها، فهي في مياه الشرب، وهل أقلّ، أو أهمّ، من توفر الدولة لمواطنيها مياه صالحة للشرب؟!  ثم في سائر القطاعات والخدمات الصحية المترديَّة، والوظائف، حيث البطالة، وفي أزمة السكن؛ ما أشعر المواطنين، ولا سيما في البصرة التي تسهم بأكثر من 65% من نفط العراق، بالإهمال والازدراء، إهمال السياسيِّين والأحزاب، والوعود المُسَوَّفة والمُخْلَفة، على نحو متكرِّر؛ ما أفقد الناس الثقة، في مجمل الطبقة السياسية (أحرق المتظاهرون، حتى الآن، لأحزاب سياسية، تسعا من مقرَّاتها ومكاتبها).

وهذا أمر خطير، ولا شك؛ لأنه يجعل من حركةً الناس حركة شعبية غاضبة، غير مؤطَّرة في إطار سياسي واعٍ، وقادر على الاستمرار والنضال البنّاء، وثانيا؛ لأنه يدلّ على إخفاق كلِّ تلك القوى السياسية، وعلى رأسها الحكومة، في بناء جسور مع الناس، بالاكتفاء بالتقوقع النَّفعيّ الذي يستأثر بمقدَّرات البلد، ويحجب فرص العدالة.

هذه الاحتجاجات الواسعة النِّطاق التي سقط فيها ضحايا، تنظر إليها الدولة في العراق، الآن (!)، بكل جدية، لكن على المستوى السطحي، ظهَر ذلك في توجُّه رئيس الوزراء حيدر العبادي مباشرة إليها، في طريق رجوعه من بروكسل، بعد مشاركته في اجتماع التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة (داعش)، وكذلك ظهَر في الحشد الكبير من القوَّات (ارتفع عددها حتى كتابة هذه السطور إلى أكثر من 30 ألف عنصر) إذ ثمة مخاطر جِدِّيَّة على المباني الحكومية، وأنْ تفقد الدولة السيطرة. وهو الأمر الذي حمل الحكومة على إيقاف موقعي فيسبوك وتويتر في أغلب المدن العراقية.

فالخطاب المُخَوِّف – ولو مِن أخطار حقيقية، أو من أعداء حقيقيين_ أو المُمَجِّد لشعارات- ولو كان الشعب يتوق إليها- لا يعيش طويلا، أو لا يمكنه أن يقاوم الإحساس بالظلم، والأزمات الفعلية، إلى الأبد.

فهل مِن حلّ؟

هناك مستويان للحل، مستوى جذري يقوم على إعادة صياغة الدولة على أسس المساواة والعدالة، على أسس غير طائفية، وغير فئوية، وعلى سيادة القانون على الجميع. كما يذهب الفيلسوف النمساوي الإنجليزي، كارل بوبر في كتاب “خلاصة القرن: ” إنَّ الديمقراطية… هي القدرة على محاكمة الحكومات، والمقدرة على منع قيام طاغية باسم شعبية، أو أغلبية، مهما كانت، فليست الديمقراطية حكم الشعب، ولكن منع انعدام الحرية، وتجنُّب ظهور طاغية، أو ديكتاتور باسم الأغلبية، أو باسم الشعبية، والديمقراطية تقتضي المقدرة على إقالة حكومات والدفاع عن المُعْوِزين،  والمعاقين، وخصوصا الأطفال وحمايتهم من عنف وجرائم الكبار”، واقتصاديا، يرى أنه من أجل البناء الجديد ينبغي “الحفاظُ على التوازن الصعب، بين حرية السوق، وتدخُّل الدولة، دولة القانون، وعلى أساس العدالة.

فنحن لا نستجيز تسلُّطَ الحاكم على الشعب، أو القفز عن إرادته، أو تزوير تلك الإرادة، وإنما ترسُّخ العدل وسلطة القانون، من شأنه أن يمهِّد الطريق لحالة طبيعية، تشعر المواطنين بالأمان، وتسمح لهم بتكوين آرائهم الواعية، في بيئة سليمة.

وهناك المستوى العملي الإجرائي الذي لا بدَّ أن يشتمل على الحدّ من الفساد والمفسدين، ومن مراكز القوى التي تتبادل معهم المصالح، وهذا يتطلَّب شجاعة، قد تتمكَّن الحكومة من استمدادها من الشعب الذي بدأ يُظهِر وعيا ومبادرة وتجاوُزًا لأحزاب سياسية أثبتت فشلها، أو فسادها.

وما الحالة العراقية المأزومة، منذ وقت، والآن أكثر إلا مثال، على المدى الذي يمكن أن تبلغه مفاعيلُ الظلم، والاحتقان. وهذا ليس بعيدا عن حكم عبد الفتاح السيسي، في مصر، فهو مأزوم، أولا، في اعتلائه عرش مصر، وكذلك مأزوم، في خطابه، وفي سياساته التي أثقلت كاهل مصر بالديون الخارجية، وتداعياتها على أسعار الحاجيات الأساسية والخدمات، وليس هنا، مكان التفصيل فيها، كما هو مأزوم في طريقة تعامله مع المخالفين له في الرأي، حتى لو كانوا من أقرب أنصاره، ومن معاونيه في انقلابه (!)

وقد مضى الوقتُ الذي كان الحاكم يتعامل مع شعبه، وكأنهم قطيع من الأغنام، على رأيٍ منسوبٍ إلى أرسطو، يحكمهم مَن هو أعرفُ منهم بالحكم، وعلى تصوُّر غوستاف لوبون الذي نظر إلى الجماهير نظرة احتقار. ولم يعد بالإمكان تصوير الحاكم الذي ينطلق من تلك المنطلقات المزدرية للشعب مخلّصا مُلْهَما لولاه لضاع البلد والشعب، وهل مِن ضياعٍ أفدحُ من تلك النظرة؟!

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه