الشدة السيساوية!

هل يثور المصريون؟

يرى البعض أن الإجابة دائماً لا، وأن الشعب المصري بطبيعته شعب يعيش على الخنوع، والدليل أنه في زمن الخليفة المستنصر الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي تحديداً من ١٠٦٤الي ١٠٧١ ميلادية لم يثوروا علي الخليفة رغم سوء الأحوال التي وصلت بهم إلي أكل كل ما استطاعوا إليه سبيلاً، حيث يصف أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير تغري بردي الظاهري ما حدث للمصريين في تلك الأيام المأساوية “وجلا عن مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأُكِلَت الدوابّ بأسرها، فلم يبق لصاحب مصر، أعنى المستنصر، سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير. ونزل الوزير أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأُخِذُوا وَصُلِبُوا، فأصبح الناسُ فلم يَرَوُا إلّا عِظَامَهُم، أَكَل الناسُ في تلك الليلة لحومَهم”.

 وهو ما يُظهر حجم الكارثة التي عانى منها المصريون في هذه الحقبة الزمنية المروعة، ويستند البعض هنا تحديداً في طرح عدم ثورية المصريين الي عدم ثورتهم رغم تلك الآلام المهولة، وهنا أختلف.

ليس دليلاً

لا أري ما في عدم ثورة المصريين في الشدة المستنصرية دليلاً كافياً على صبر المصريين على الشده السيساوية التي بدأت مع بداية حكم عبد الفتاح السيسي، ولا أرى أن القياس هنا صحيح تماماً ولدي أسبابي.

المصري الذي عاش بعد عشرة قرون من عصر المستنصر الفاطمي رأي ما لم يره جده الأكبر الذي أكل لحوم الدواب ولم ير في هذا سبباً للثورة علي حاكمة، وبداية فإن جزءا لا يتجزأ من السياق التاريخي الشدة المستنصرية أنها لم تكن نتيجة سياسات اقتصادية انتهجها الخليفة، بل كانت في الأساس نتيجة حصار عسكري على القاهرة إثر صراع مرير بين أمراء الدولة الفاطمية على ولاية الشام، وأبرز المحاصرين كان الأمير ناصر الدولة الثاني، ذي المجدين الحسن بن الحسين الحمداني، شقيق سيف الدولة الحمداني، وتسبب الحصار في انقطاع مدد الغذاء عن القاهرة الآتي إليها من محافظات الوجه البحري والصعيد، وهذا في الوقت الذي كان فيه منسوب النيل منخفضا من الأساس ما تسبب في زيادة الكارثة، ورأى المصريون خليفتهم يعاني معهم، حتى وصل ما يمتلكه من خيل إليّ ثلاثة بعدما كانت بالآلاف. وفي وجدان المصري في القرن الحادي عشر حيث جرت الأحداث فإن الخليفة هو ظل الله على الأرض، والخروج عليه من المحرمات العقائدية وهو سبب عندما انتفي وقت الحملة الفرنسية علي مصر ثار المصريون في وجه المحتل الأجنبي الأقوى بمراحل من محتله الفاطمي الذي كان السائد وقتها أنه طالما الحاكم مسلم متغلب فهو الخليفة الشرعي والحاكم الذي يأثم من يدعو للخروج عليه، فنحن أمام مسألة متعلقة بفهم الدين والامتثال لتعاليمه وليست حالة خنوع متأصلة.

مفهوم العلاقة

نعود هنا إلى المصري بعد عشرة قرون كاملة تغير فيها مفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تعد للحاكم تلك القداسة الدينية، وانتهت دولة الخلافة صاحبة السطوة الدينية الوجدانية إلى دولة قومية، بالطبع تستعين الدولة القومية العسكرية بالإضافة إلى الاستقواء بالأجهزة الأمنية المعقدة، بالخطاب الديني بواسطة رجال دين يستفيدون بشكل مباشر من السلطة، لهم رصيد شعبي من خلال ظهورهم المتكرر على الشاشات، أو بالاستحواذ على المساجد تحت سلطة الدولة ونفوذها.

ولكن يبقى في النهاية المصري في القرن الحادي والعشرين قادرا على النظر للحاكم، مهما كانت هيبته المصنوعة بالرعب من بطشه، بشكل مختلف عن سلفه، ومع استخدام التكنولوجيا بشكل مكثف ومع المقارنة بالغرب، يشعر الناس بأهمية الديمقراطية ويستشعرون خطورة بقاء الطغاة على كراسيهم وإن بدا عكس ذلك لمن ينظر إلى الأمر كما لو لم تجر مياه الأنهار تحت الجسور، وكما لو أن المستنصر باق على كرسي الخلافة، وكما لو كان الملهم لأحلام الناس ومصدر المعلومة ومحرك الهمة أئمة المساجد -باختلاف توجهاتهم الفكرية- كما كان من قرون.

ليست مصادفة

ثورة يناير لم تكن محض مصادفة ولم تكن إلا إحدى الإشارات المهمة بتغيير عميق في الشخصية المصرية، خاصة وسط الأجيال الشابة، ولا يحول بين  المصريين وثورتهم إلا حالة الانقسام المجتمعي الحاد الناتج عن التراشق في مرحلة ما بعد الثورة الذي وصل إلى حد الاقتتال في الشوارع، واستخدام النظام لأسلوب الترهيب من انقضاض الإسلاميين على السلطة من خلال وسائل الإعلام كبديل وحيد للنظام العسكري إذا تمت إزاحته بثورة كما حدث مع مبارك.

الخنوع ليس السبب الأساسي لعدم ثورة المصريين، والسبب الأساسي في اعتقادي حالة الانقسام الحاد في المجتمع وعدم وجود بوصلة تلهم الناس وتضع أيديهم على موطن أوجاعهم وسبيل الخلاص.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه