“الميديوقراطية” أو حكم التافهين! (1-2)

 
توصل فيلسوف سياسي كندي لنظرية سياسية عن حكم الرويبضة التافهين للعالم، وهو الأمر الذي تحدث عنه نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام قبل ما يزيد عن 1400 عام.
ولا أتصور ان الفيلسوف الكندي الشهير آلان دونو Alain Deneault ” درس الإسلام كدين وثقافة ومعتقد قبل أن يشرع عام 2015 في صياغة نظريته- التي بدت طريفة لذهنية الغربيين الأجانب بعكس المشرقيين أمثالي- وهي تلك النظرية التي صاغها في كتاب عنوانه ” الميديوقراطية” أو سلطة التفاهة، أو حكم الرويبضة  La Médiocratie ( لا ميديوكراسي).
في العام 2016 صدر كتاب آخر لنفس المؤلف يستكمل به فكرته المحورية التي طرحها في كتابه الأول. الكتاب الثاني بعنوان: “سياسات المركزية المتطرفة”
صدر الكتابان باللغة الفرنسية في مونتريال بكندا عامي 2015 و2016، وعالج دونو في كتابه الثاني بشكل أكثر تفصيلا ما أسماه بـ ” ديكتاتورية التافهين أو الرويبضة”، وكيف يتصرفون على نحو متطرف، وبأي نظام ومفاهيم يمارسون السياسة؟
سمعت عن فكرة (حكم التفاهة) لأول مرة من النائب الكويتي السابق ناصر الدويلة عندما أرسل قبل أسابيع نصا مكتوبا على هاتفي المحمول عن الكتاب الأول، أعتقد انه منقول عن موقع الداعية السعودي المعروف عائض القرني، ومن لحظتها بدأت متابعة الموضوع والتوغل أكثر في دراسته، واعتزمت الكتابة عنه بمزيد من التفصيل.
بديهية لا تحتاج لبرهان
أتصور أنه لا يكفي ان نتناول الفكرة من زاوية دينية فقط، لأن لدي يقين ثابت أن العلماء والفلاسفة سيستمرون حتى قيام الساعة في التوصل لأبعاد جديدة ونظريات علمية وفلسفية سبقهم اليها الدين الإسلامي العظيم بعقود وآجال طويلة.
وليس هدف هذا المقال بجزئيه الأول والثاني هو فقط إثبات أسبقية الإسلام في التوصل لهذه النظرية أو تلك، لأن الأمر بالنسبة لي بديهية علينا أن نبني عليها المزيد من الفهم لما جاء في نظرية الفيلسوف الكندي لأننا لو فهمناها جيدا يمكننا أن نخاطب غير المسلمين باللغة التي يفهمونها. وربما يكون هذا المقال جهدا متواضعا في هذا السياق.
 كلمة ميديوقراطية Médiocratie تتكون من كلمة “Mediocris” اللاتينية التي تعني “متوسط الذكاء، أو سيء القدرات، أو قليل الموهبة، أو ضعيف المهارة، أو الرديء، والدنيء” ، وهي كلها تم تلخيصها في التعبير النبوي الجامع:” الرويبضة” التي سأل عن معناها صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لهم:” هو الشخص التافه يتكلم في أمر العامة”، أما المقطع الثاني فهو كلمة “kratos” اليونانية والتي تعني الحكم والسلطة والهيمنة.
    إذن هي حرفياً حكم التافهين (الرويبضة) أو سلطة التفاهة، وهذا التفسير اللغوي للكلمة يقترب من تفسير كلمة الديمقراطيةLa démocratie (ديموكراسي) من الناحية اللغوية استنادا الى أصل مقطعيها      demosوkratos، أي حكم الشعب.
نقل الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سيأتي على الناس سنوات خدّعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.
وفي الحديث السابق نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرن زمن ظهور الرويبضة (التافهون أو السفهاء) بانهيار النظام الأخلاقي، إذ يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين ويُكذب الصادق، ويُصدق الكاذب، ثم يظهر هذا السفيه ليتكلم في أمور العامة، وهو أجهل من حمار أهله.
العلامة اللغوي بن منظور في كتابه الأشهر:” لسان العرب” يقول: “الرويبضة: هو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور وقعد عن طلبها، والغالب أنه قيل للتافه من الناس لربُوضِه في بيته، وقلة انبعاثه في الأمور الجسيمة”.
 ولنا أن نكتب باقي المعاني التي تتحرك داخل نسيج كلمة (ميديوكراسي) Médiocratie، فهي تعبر عن موقع ” صغار العقول والحمقى” من السلطة العامة. ولعل السلطة بموجب كونها لا حدود لها في مجتمعات يهيمن عليها متوسطو العقل، فإن السلطة بمثابة الإغراء الأقوى لتعويض قدراتهم المعتلة الناقصة.
بناء عليه، ووفقا للباحث سامي عبد العال، فإن الميديوقراطية هي شعار يستهدف تمكين ” الأقل كفاءة” في مراكز الحكم ومواقع المسئولية واتخاذ القرارات ورسم الخطط والاستراتيجيات.
وفي هذا لا يختلف مجتمع عن آخر، وفقا لدونو، سوي في حيل التافهين وأساليبهم وتسللهم إلى فضاء السلطة. لأن التفاهة المعاصرة هي ملح السياسة نظرا لكونها تغلف ذاتها بالتكنولوجيا ووسائل الاتصال والسياسات المسماة بالعظمى والتاريخية.
ووفقا لعبد العال، فإن التفاهة تنتج أنشطةً بارزة في العالم المعاصر، لأنَّ التافهين يحددون الشروط المحيطة بهم، آملين أنْ تخلق ممارساتهم شخوصاً وأفعالاً على نفس مستواهم باعتبارهم أحد تروس الآلة الاقتصادية السياسية العملاقة التي تهيمن على الحياة المعاصرة.
ظاهرة فرعية
 
كتاب (الميديوقراطية) للباحث والفيلسوف السياسي الكندي “آلان دونو” يمثل نصاً ملتحماً مع البناء التافه لعالمنا المعاصر، كاشفاً أبعاده المؤثرة. وبلغت طرافته حدَّ إبراز التفاهة كظاهرة جانبية يصعب رؤيتها بوضوح، لكنها تقدم إمكانات متعددة لقراءة مختلفة حول قضايا السياسة والتاريخ.
يري دونو أن التفاهة صارت تقنية من تقنيات الأنظمة السياسية، وهي لا تأتي دون أقطاب يحملون منظومات وأفكاراً وخططاً قابلة للتطبيق. الفارق أنَّه إذا كان البلهاء تافهين حتى النخاع، فالسلطة تعطيهم نظاماً خاصاً لإضفاء الجدية والمشروعية على أفعالهم.
أي إنَّ السلطة صارت بمثابة مصفاة لا تهتم باستبعاد البلهاء، بل تعطيهم قدرات صارمة وفاعلة على المستوى الجمعي. فالسلطة لا تخدع الناس فحسب إنما توجههم – طوال الوقت- نحو المزيد من الخداع مادامت هي التي تغلف وجوده.” إنَّها مثل القوقعة اللامعة التي تحوي داخلها يرقات وطحالب التفاهة التي تتناسل في جوف السياسات المهيمنة.”
كل سياسة من هذا الصنف هي الحاضنة التي توفر شروطاً لنمو الطحالب التافهة، وفقا لدونو.
المخزون الاستراتيجي للتفاهة
وللدقة فإن السلطة قد تفرز ما يخادع جمهورها العريض إلاَّ أن التافهين يتعاملون معها عضوياً وسياسياً بشكل متواطئ. وهنا يأتي مفهوم الكتلة البلهاء من التفاهة المهيمنة والآخذة في الانتشار.
الحاكم التافه، وفقا لدونو، يتعامل مع السياسة بمنطق الكتلة لدرجة أنَّ نظامه السياسي يسير وفقاً لفيزياء خاصةٍ.
الحاكم التافه يحرص على إشاعة روح البلاهة عن طريق شبكة كبيرة من الموالين والأنصار والحلفاء وأصحاب المصالح. شريطة أن يكونوا على ذات المستوى من التفاهة، وأن يكون التسابق لا لصالح الدولة إنما لترسيخ السلطة وسطوتها بشكل أفقي عام.
ويري الفيلسوف الكندي أنه بواسطة العلاقات التي تنشأ بين التافهين تتكون شبكة التفاهة التي تلتهم النظام السياسي للحفاظ علي مصالحها، ولا تفتأ تواصل وجودها كلما أتيحت لها الفرصة. إنَّ التفاهة تتصلب في مواقفها بجانب ممثليها لو اعترضتها أدنى مشكلةً. وتصبح قوية مستغلة موارد الدين والأفكار السائدة في تحريك الدفة نحو ما تريد. والعلاقات بالمعنى السابق لا تتحدد في الهواء لكنها تستند إلى تخلف المجتمعات، وإلى بنية موازية من العلاقات العامة. فالتصورات والأنماط السائد هي المخزون الاستراتيجي للتفاهة.
” التافهون ( الميديوقراط ) يتكالبون على السلطة كما يتهافت الذباب على الجيف. ويعلمون كونهم في عداد المهملين دون هذه المساحة أو تلك. لذلك هم عادةً كائنات لزجة، سمجة، متمحكة تتعلق بأية أهداب للحكم ولو كانت بسيطة. ويمارسون إفراطاً في العنف كأنه شيء طبيعي كجزءٍ من وجودهم السياسي، بل لا يستطيعون انفصالاً عن حالات التشنج السلطوي باسم وبدون اسم.
 
( يتبع )

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه