محمود سعيد. فنان لا يعرفه كثيرون!

أتصور ان إعادة الاعتبار للفنان التشكيلي الراحل محمود سعيد أصبحت واجبا وطنيا وإنسانيا لرجل يعرف الأجانب عنه وعن فنه أكثر بكثير مما تعرفه الأغلبية العظمي من المثقفين المصريين والعرب.

يتذكر المصريون، وخصوصا النخب المتعلمة والمثقفة، المذيع الشهير في إذاعة صوت العرب في ستينيات القرن الماضي أحمد سعيد، أكثر مما يتذكرون الفنان السكندري المبدع محمود سعيد (1897 –1964) الذي يعد الأب الروحي للفن التشكيلي المصري الحديث.

ويقول المأثور الشعبي المصري: (أحمد زي الحاج أحمد)، لكن في حالتنا تلك، فإن البون شاسع بين أحمد سعيد ومحمود سعيد. الأول صاحب البيانات النارية الكاذبة عن مسار حرب 5 يونيو/حزيران من العام 1967، والثاني صاحب لوحة ” فتاة الثوب المطبوع” التي بيعت في العاصمة البريطانية لندن الأربعاء الماضي (18 أبريل 2018) بمبلغ 512 ألفا و750 جنيها استرلينيا إذ تم عرضها للبيع باعتبارها اللوحة الرئيسة في مزاد عن اليقظة والحداثة ضمن إطار الشرق الأوسط المعاصر الذي يقام بمقر صالة المزادات العالمية ( بونهامز ) بحي ماي فير الراقي بوسط لندن .

وذكرت صالة مزادات ( بونهامز ) على موقعها علي شبكة الإنترنت أن لوحة ( فتاة الثوب المطبوع) لمحمود سعيد رسمت في العام 1938 ولم يتم عرضها قبل ذلك للبيع في أية مزادات أخري حول العالم، وهي تعد من الأعمال الفارقة في تاريخ الفن المصري في القرن العشرين.

الاستقلال الشكلي

وقالت نعمة صقارجي مدير إدارة الفن الحديث والمعاصر للشرق الأوسط بصالة بونهامز إن العمل الفني يصور فلاحة مصرية بملابس تقليدية وملامح شرقية اعتبرت بعد ذلك رمزا للهوية الوطنية المصرية عقب حصول مصر على استقلالها (الشكلي) عن بريطانيا بموجب تصريح 28 فبراير من العام1922 .

وأوضحت أنه على الرغم من أن الفنان المصري محمود سعيد جاء من بيئة ارستقراطية لأنه خال الملكة فريدة- الزوجة الأولى لملك مصر السابق فاروق الأول- إلا أنه وجد الإلهام في تصوير حياة ومعاناة المواطنين المصريين البسطاء.

وأشارت إلى أن المرأة في اللوحة لديها بشرة داكنة وملامح تشير إلى أنها من شمال مصر، كما يشير الوشم على ذقنها لانتمائها إلى قبيلة بدوية. وبينما من الواضح تماما أن الفلاحة في اللوحة تعمل كعاملة زراعية إذ ترتكن بيدها على قارورة ضيقة أو جرة لجلب المياه، فإن الفنان المصري محمود سعيد خلق تناقضا فنيا مميزا عندما صورها في ثوب مطبوع ومزركش بالورود.

وأوضحت أن لوحات الفنان المصري الكبير محمود سعيد لم تكن تحظى بأهمية تذكر منذ عدة عقود فقط، لكنها تجد حاليا طلبا متزايدا من مقتني الأعمال الفنية حول العالم، فمن بين لوحات البورتريه التي رسمها والتي لا تتجاوز بضع مئات، تم إهداء البعض منها إلى أفراد من أسرته وبعض الأصدقاء.

هندسة بنائية متميزة

الفنان محمود سعيد هو نجل رئيس وزراء مصر الأسبق محمد باشا سعيد، وحصل على ليسانس الحقوق الفرنسية عام 1919، ووافق والده الباشا بعد ذلك على سفره لباريس لاستكمال دراسته العليا للقانون، فاغتنم هذه الفرصة والتحق بالقسم الحر بأكاديمية جراند شومبير لمدة عام كامل، ثم أكاديمية جوليان، وانشغل بتأمل ومشاهدة الثروات الفنية في متاحف باريس ومعارضها، وبالقراءة حول تاريخ الفن في كل من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.

ووفقا لكتاب عن أعمال محمود سعيد صدر عن الهيئة المصرية العامة للاستعلامات في العام 1999، فقد تأثر البناء التكويني لمحمود سعيد بعدة مرجعيات كونت في النهاية هندسة بنائية متميزة ومتفردة إذ تأثر بفن التصوير الفرعوني والقواعد الكلاسيكية للفنون الأوربية في عصر النهضة بجانب تأثره بدراسة القانون والتي أملت على أفكاره النظام وأهمية الالتزام به.

من أشهر لوحات محمود سعيد “مراكب الصيادين” ذات الأشرعة على نهر النيل، و”بنات بحري”، التي يصور فيها فتيات رأس التين المعروف بحي الجمرك، وكذلك حي بحري، في الملاءة اللف السكندرية الشهيرة وحركة المشية الشعبية، بالانحناءات التي تبرز الدلال والخصوصية، ولوحة عن “المصلين” يبدون راكعين في خشوع، ويرتدون العمائم، وكذلك لوحة “الشادوف” و”المدينة”، ولوحة ” افتتاح قناة السويس” المشهورة.

كما رسم لوحة “ذات الجدائل الذهبية”، التي تصّور فتاة مصرية بالزي الشعبي، وقد غطت شعرها الأسود بمنديل أزرق تتدلى منه بعض خيوط صفراء، ويكشف عن جزء من صدرها، أيضَا صور محمود سعيد “الدراويش، في لوحةٍ رسمها عام 1935، حققت أعلى قيمة مادية للوحة في المنطقة العربية، وبيعت بحوالي  مليونين ونصف المليون دولار في صالة مزادات كريستيز العالمية في لندن أيضا.

ميدالية الشرف

تم تكريم محمود سعيد على مستويات عدة، إذ نال ميدالية الشرف الذهبية بمعرض باريس الدولي عام 1937 عن الجناح المصري، ثم منحته فرنسا وسام اللجيون دوبنر عام 1951، وفي عام 1960 كان أول فنان تشكيلي مصري يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون وتسلمها من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

في ذكري مولده ووفاته يوم 8 أبريل 1964، وبمناسبة بيع إحدى لوحاته بمبلغ تجاوز نصف مليون جنيه استرليني يوم 18 أبريل 2018، أتصور أن إعادة الاعتبار للفنان التشكيلي الراحل محمود سعيد أصبحت واجبا وطنيا وإنسانيا لرجل يعرف الأجانب عنه وعن فنه أكثر بكثير مما تعرفه الأغلبية العظمى من مثقفين المصريين والعرب.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه