السيسي.. مصير دوريان جراي

نعرف أنهم كذابون، ونعرف أيضا أنهم لا يطيقون النظر لصورتهم في المرآة، فيصنعون صوراً مستعارة ويروجونها في إعلامهم، يرسمون أنفسهم فيها كحماة للدولة ومحاربون للإرهاب.

(1)

قلت: السيسي لن يكون رئيسا لمصر فترة أخرى، ولما أعلنت لجنة الانتخابات فوزه الكاسح الكسيح، اتصل بي الإعلامي العباسي شامتاً: ما رأيك بعد أن خاب ظنك وبقى السيسي رئيساً؟

قلت: ومن قال إنه رئيس؟

#كدابين

(2)

الحوار السابق محاكاة تخيلية لقصة حدثت مع المفكر والفيلسوف الفرنسي جون بودريارد، عقب الاجتياح العراقي للكويت عسكرياً في زمن صدام حسين في أغسطس 1990، حيث انتشرت في ذلك الوقت التكهنات عن تدخل أمريكا عسكريا وشن حرب واقعية لتحرير الكويت، وانقسم العالم حول هذا الأمر بينما كانت واشنطن ترتب لتكوين تحالف دولي عسكري وتحريك اساطيلها، وفي الرابع من يناير 1991 نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية مقالاً مدويا لبودريارد تناقلته معظم الصحف الكبرى بعنوان حاسم: “حرب الخليج لن تقع”، واثناء الغزو نشرت الصحيفة مجدداً مقالاً آخر للفيلسوف نفسه بعنوان استفساري استنكاري يسأل فيه مشككاً: “هل وقعت الآن حرب الخليج؟”، ولما انهمرت عليه الأسئلة الاستفزازية الشامتة من نوع: ما رأيك الآن وقد وقعت حرب الخليج بالفعل؟، رد بودريارد بسؤال أكثر استفزازاً وهو يقول لسائليه: ومن قال إنها وقعت؟، ثم كتب مقاله الثالث في 29 مارس 1991 بعد انتهاء الحرب وفرض الحصار، واختار له عنواناً حاسماً أيضاً: “حرب الخليج لم تقع” وكأنه يؤكد عنوان مقاله الأول، ولمزيد من الحسم جمع المقالات الثلاثة في كتيب يحمل العنوان القطعي للمقال الثالث: حرب الخليج لم تقع، وهو ما يصلح بالتوازي للقول: إن الانتخابات الرئاسية في مصر لم تقع، وبالتالي فإن السيسي ليس رئيساً، وإن ما يحدث مجرد تمثيليات هزلية يتم فرضها على الناس بقوة الإلحاح الإعلامي، وتصنيع الواقع الزائف بديلاً عن الواقع الحقيقي، وبديلا عن السياسة والدستور والمنطق العقلي أيضاً.

(3)

تبدو فلسفة بودريارد برغم شطحاتها الخيالية، هي الأقرب والأقدر على تفسير واقعنا الأكثر شططاً واجتراءً على القواعد وعلى العقل المنتظم، فهو يقول إن الواقع تم اختطافه وإخفاؤه قسريا في متاهة من الصور والشعارات المصنوعة، وبالتالي فإن ما يحكم اليوم باسم الواقع، ليس إلا واقعا مستعاراً زائفاً تم تصنيعه وإقناع الناس به، أو فرضه عليهم بالحيلة مرة وبالقوة الغاشمة مرات، ولهذا فإن حرب الخليج من وجهة نظر بودريارد كانت أول تجربة لصناعة “حرب صورية” تتفوق فيها الكاميرات والميكروفونات على الدبابات والصواريخ، وهو الاتجاه الذي تمت محاكاته في العالم كله، ما أدى إلى لوثة سلطوية في السيطرة على أدوات الإعلام ومضخات الكلام، وهو ما اهتم به نظام السيسي كوسيلة لإعادة تصنيع الواقع المستعار، وإخفاء الواقع الفعلي للربيع العربي خلف مستنسخات الحروب الصورية والأزمات المفتعلة وسراديب الخوف ومناخ الفوبيا، لهذا استغنى النظام عن كل القوى الواقعية وسعى لتغييب الجماهير وحجب الإعلام ومعاقبة الكلام الفاضح للزيف، فالخطة كانت “تصنيع رئيس زائف” لدولة انتهت واقعياً وتحولت إلى أشلاء وأشباه وأشباح، وبالطبع يستلزم هذا “تصنيع دولة جديدة” يكتبها ويخترعها “الرئيس الممثل” بمعرفته وعلى مقاس الدور الذي يطمح للقيام به، لهذا لا يمكن لمثل هذا “الرئيس الشبحي” ان يعترف بأي إشارات تعيد الناس إلى الواقع مثل: السياسة (أنا مش سياسي هيييه هأأو) ومثل الدستور (نصوص مكتوبة بحسن نية لا تف بمتطلبات المرحلة لذا يسهل انتهاكها لأي أسباب يتم اختراعها) ومثل حرية التعبير وحرية التظاهر والاستفسار عن استحقاقات الثورة، ومثل الديموقراطية والانتخابات والمرشحين والمنافسة وتداول السلطة (مش هسمح لأي حد يقرب من الكرسي دا).. ومثل كل شيء في مصر الآن صار الواقع مخطوفا ومعتقلاً ورهن التعذيب والتنكيل والحجب، وهذا يعني باختصار إفساح المجال أمام شخصيات كرتونية وصور هزلية ومساخر تملأ فراغ “الواقع المعتقل”، حيث يحل النفاق المبتذل محل النقد والمحاسبة والتقويم، ويختفي المنافسون الحقيقيون لصالح “أراجوزات المرحلة”، ويتحول الزخم السياسي والتفاعل الثوري إلى حشد استعراضي ليواكب “الزفة” واستعراضات الأفراح والموالد والرقص والصراخ تحت تأثير التقليد والهيستيريا الجماعية، وبالطبع لا يمكن أن تنتج هذه المظاهر (غير السياسية) رئيساً لدولة، بل تنتج “فنكوشاً” صنعته الإعلانات وجوائز المسابقات وحملات الترويج التي تصل بفنانين ومثقفين وإعلاميين إلى حمل المباخر والنداء على “شمهورش” والقسم بالله أن رقبتها فداءً للزعيم الذي إذا طلب قطع رؤسنا لقطعناها.

(4)

المؤسف أن حرب العراق التليفزيونية (كما سماها بودريارد) دمرت بلداً، بأكثر مما كان لحربٍ تقليدية أن تدمره، وبالتالي فإن “هزلية السيسي ومرحلته” لا تعني أنه غير قادر على تدمير مصر وتفكيكها وتعجيزها عن أي دور، بالعكس تصبح هذه الهزليات أشد خطراً على مصر من واقع الفساد المباشر الذي كانت عليه مصر في عهد مبارك، لأن مبارك كان “ميكروبا” والميكروب يستثير مناعة الجسد، أما السيسي فهو “فيروس” يخدع الخلايا وينتحل شيفرتها ليوهمها أنه منها ويعمل لصالحها، بينما هو “يسرطنها” ويدفعها للانحراف عن أدوارها ووظائفها حتى تتحول إلى أدوات قتل للخلايا السليمة التي تحيط بها.

(5)

من هذه النظرة لا يمكننا النظر إلى انتخابات السيسي باعتبارها رغبة فردية في الاستحواذ على السلطة من أجل طموح شخصي (رفاهية وحياة الاكسلانسات مثلا حسب أمنية مبارك)، لكنها مؤامرة لتدمير الوطن تتجاوز أطماع شخص أو حاشية، وبالتالي فإن أكاذيب السيسي ليست “عواراً أخلاقياً”، لكنها جريمة خيانة عظمى تتستر وراء الحيلة والخداع اللفظي، بينما السرطان يتمدد ليدمر خلايا الوطن السليمة مدعوما بإعلام كاذب، وأجهزة قمعية، وسياسات تعجيز وإفقار للمواطنين ونخبة تترنح في حلقات “الزار السياسي” الذي تجتذب إليه السلطة ضعاف النفوس ومعدومي الضمائر، وجماعات العميان الذين ينظرون إلى السيسي فيرونه رئيساً حامياً حانياً، بينما هم يتحسسون رقابهم ويقايضون على حريتهم، ولا يأمنون على أولادهم ولا زوجاتهم، لأنهم رأوا بأعينهم السفاح وهو يتلذذ بقطع الرؤوس وتعذيب الأبدان، حتى صار الكذب بالنسبة لهم هو “الواقع الآمن”.. إنهم جميعاً كذابون يعرفون أنهم كذابون، ويعرفون اننا نعرف أنهم كذابون، ونعرف أيضا أنهم لا يطيقون النظر لصورتهم في المرآة، فيصنعون صوراً مستعارة ويروجونها في إعلامهم، يرسمون أنفسهم فيها كحماة للدولة ومحاربون للإرهاب، بينما الدم يسيل من أيديهم وأنيابهم، وتكشف ذيولهم المدببة حقيقتهم الشيطانية المتحولة، وهذا هو الفارق بين صورة النظام في الميديا العالمية وصورته الداخلية التي يروجها عن نفسه، خشية أن ينظر إليها فينتحر كما انتحر دوريان جراي ليتخلص من صورته الواقعية المشينة.

#كدابين

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه