(الترمبيَّة) هل تُرسي خطابَها؟

واستمرَّ ترمب، على نحو أوضح، بعد تقبُّل أوباما طريقة صعود عبد الفتاح السِّيسي على أنقاض ثورة شعبه؛ ليعيدهم إلى نظام مبارك، في إصدارٍ جديد.

 

لم تكن العلاقات الدولية، يومًا، وفيَّةً للقيم وفاءً تامًّا، لكنها أيضا، لم تنحدر إلى إدارة الظهر لها بالكُليَّة وبالسفور الذي يحاول الرئيسُ الأمريكي، دونالد ترمب، أن يفعله. وحتى الولايات المتحدة التي قامت على إبادة السكَّان الأصليِّين (الهنود الحُمْر) لم تتفرَّد المصالحُ المادية بتكوينها، وبتشكيل ما يُسمَّى بالحلم الأمريكي، فقد ظلّ، ومنذ نشوئها، يتنازعها مذهبان؛ المذهبُ النفعيُّ الذي يستهدف السعادةَ؛ بتحقيق المصالح المادية، ويصوّر الثراء، وتكثير الثروات، قيمةً عُليا، في حدِّ ذاتها، والمذهب القِيَميُّ الذي يتمسَّك بأهمية الحفاظ على حقوق الإنسان، ولذلك طالما خضع السياسيون الأمريكيون لهذا المكوِّن القِيَمي، حتى وهم يرتكبون أقسى المعارك، ويتسبَّبُون في أفدح الخسائر البشرية والأخلاقية، بالزَّعْم أنهم إنما يخوضون معاركهم، أو معارك أمريكا؛ دفاعا عن الأمن والسِّلْم العالميَّين، أو في أقلِّ التوصيفات، أنهم يندفعون في تلك الصراعات؛ حفاظا على مصالح أمريكا، مع الحرص على تصوير أعدائهم، كالاتَّحاد السوفيتي وحلفائه بالأشرار، أو بمحور الشر، أو الدول المارقة، وبعد ذلك، طفا مفهومُ الإرهاب؛ لتسويغ الحروب في منطقتنا، كالحرب على العراق، عام 2003، وقبلها الحرب على أفغانستان، عام 2001.  

أمريكا أولا

وبعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض، ورفْعِه شعار “أمريكا أولا”، بات يتكشَّف معنى تلك الأولويَّة، أو أوليَّتها على الاعتبارات الأخرى، فلم يقتصر مفهومُ هذا الشعار، أو نطاقُه على تقديم مصالح أمريكا على مصالح الجميع، حتى حلفائها الأوروبيِّين، وكندا، ولكنه اتَّسع ليشمل طموحا ترمبيًّا في تفكيك معايير الخطاب الأمريكي السائد؛ ليجرف في طريقه كلَّ ما يُعيق المكاسب المادية المباشرة، لتتجلَّى البراغماتيةُ بأفدح معانيها.
ظهرت تلك النظرة الترمبية، في التعاطي مع مصير بشار الأسد، بعد كلّ الفظائع والتدمير الذي ألحقه بشعبه وببلده، وبكلِّ تلك الأساليب البالغة الوضوح والاستهتار الآمِن من العقاب والمساءلة.
ولا يزال الكثيرون في صدمة لا تخفُّ بالتقادُم؛ كيف ينجو بشار، ويستمرُّ نظامُه، دون أيِّ تغيير جوهري، وكيف تجري إعادة تأهيله، بعد كلِّ الذي فعله، على مدار سنوات من عُمْر الثورة في سوريا؟
واستمرَّ ترمب، على نحو أوضح، بعد تقبُّل أوباما لطريقة صعود عبد الفتاح السِّيسي على أنقاض ثورة شعبه؛ ليعيدهم إلى نظام مبارك، في إصدارٍ جديد، هو الأبشع والأقسى، والأكثر استهتارا، من حيث القمع والزجّ بكلّ المعارضين في السجون، والرقابة على الكلمة، أينما قيلت، أو نُشرِت، ولم يكن مبارك يسلَم من الانتقادات الأمريكية، وطالبته بمزيد من الدَّمَقْرَطة، بخلاف السِّيسي! 

مدفوع الثمن

وجاءت قاصمة الظهر؛ بحادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي؛ لتكشف لنا عمَّا يريد ترمب للعالم ولأمريكا أن يمضيا إليه، إذ آخِر ما استقرّ عليه، هو طَيُّ هذه الصفحة الدموية، والبالغة الرمزية، دون تجشُّم عناءِ البحث الجِدّي عن حيثيَّات القضية، لا قانونيا، ولا أخلاقيا، أعلنها بصراحة: مصالحُنا أهمّ، وبقاء إسرائيل، (وهنا يلعب على وتَرٍ حسَّاس، لدى الشعب الأمريكي، ونُخَبِه، ولا سيَّما في الكونغرس) مقابل السكوت عن الجريمة وملاحقة فاعليها.  
لكن هذا السكوت عن متابعة الجريمة ليس مجَّانيا؛ إنه مدفوع الثمن، والثمن يجب أن يكون صريحا، وملموسا، كما حدث من استجابة السعودية لأوامر ترمب، برفع إنتاج النفط، وبالتالي انخفاض سعر البرميل، إنَّ ترامب يساوم السعودية، على وجودها، كنظام، ودولة:”إننا نحمي دول الشرق الأوسط، إنهم لن يتمتَّعوا طويلا بالأمان، من دوننا، وهم يرفعون أسعار النفط أكثر وأكثر. تذكّروا يجب أن تخفضوا أسعار النفط الآن”. 
وجريمة اغتيال خاشقجي في قنصلية بلده في تركيا، وإنْ مَنَحَتْ ترمب ورقة مساومة ثمينة، إلا أنها كشفت عن عُمْق المعركة التي تجري في واشنطن، ليس على أساسٍ حزبيٍّ انتخابيٍّ فقط، ولكنها عابرة لذلك، ليستقرَّ السؤال: إلى أيّ مدى يمكن للسياسة والمصالح أن تُجْحِف بالقيم؟
وهي معركة لم تُحسَم بعد؛ لأن ترمب يُفْضِي- تحت شعار “أمريكا أولا”- إلى تجريد أمريكا من قوَّتها الناعمة، أو مِن أهمّ مقوِّمات تلك القوَّة، ويَحْرِم أمريكا مستقبلا، أو يُضعِف، ويشكِّك، كثيرا، في أداتها المهمَّة في علاقاتها وصراعاتها الدولية، وهي حقوق الإنسان والديموقراطية. 
كما أنه يهمِّش القوانين الأمريكية القاضية بمعاقبة الدول التي تدعم الإرهاب، أو تمارسه، كما قانون جاستا: “العدالة في مواجهة النشاط الإرهابي” الذي أقرّه مجلس الكونغرس، ثم مجلس النواب، في 2016. ومن المفيد الانتباه إلى هذا الربط بين البُعْد القانوني والحقوقي، وبين البُعْد المَصلحي، في بنود القانون، كما يظهر في المادة الأولى منه التي تنصُّ على أن “الإرهاب الدولي” يعتبر مشكلة خطيرة تهدِّد المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، فيما اعتبرت المادة الثانية، أن الإرهاب الدولي يؤثِّر سلبًا على حركة التجارة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، باعتباره يُلحِق ضررًا بالتجارة الخارجية وينسف استقرار السوق.

تهميش المؤسسة

وكذلك الشأن مع قانون ” ماغنيتسكي” الذي أقرّه الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس، وصدّق عليه الرئيس السابق، باراك أوباما، عام 2012، هو يمكِّن القانون الإدارة الأمريكية أيضا من فرْض عقوباتٍ على أشخاص بتهم تتعلَّق بانتهاك حقوق الإنسان. فترمب بهذا الخطاب وبهذه المواقف يهمّش المؤسَّسة الأمريكية، والنظام والدستور. فالمسألة ليست مسألة صحفي مغدور، إذ أنه أضحى علامةً على صراع أعمق. 
وهنا الخلاصة المعروفة والمهمة، عربيا؛ كلما أمعن الحاكمُ العربيُّ في قطع الخيوط مع شعبه، وكلما تخلخلت الثقةُ بينهما، أو كلما تسبّب في خلخلتها، زادَ ارتهانُه للخارج، ولا سيَّما لإدارة متأهِّبة للابتزاز غير المحدود. 
ولا يخفى أنَّ الأرضيَّة التي يستند إليها هذا الخطابُ الترمبي العاري من القيم الإنسانية هي أرضيَّة الأزمات الاقتصادية، وسيادة اقتصادات السُّوق، حيث تسليع ما لا يُسَلَّع، وفي ظل هذا المناخ الذي تفاقمت فيه النزعات الشَّعْبَويَّة والقومية المتطرِّفة، في أوروبا وأمريكا.
ويبقى سؤال؛ قد ينجح ترمب في استبقاء حكَّامٍ عربٍ على شاكلته، إلى حين، ولكن هل يمكن لأعرافٍ دولية وإنسانية ظلَّت صامدة، بتجليَّات متنوَّعة، على مدى قرون، أنْ تفنى، أو تتعطّل تماما، في منعطَفٍ تاريخيٍّ مأزوم، وعلى يد رئيس لا تزال تلاحقه أسئلة الأهلية والنزاهة؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه