ديمقراطية التوحيد : الشعب “رب” الحاكم

 
كتب الأستاذ سيد قطب عن الحاكمية، واقترح برنامج عمل لتحقيقها، وهذا المقال يحاول أن يقدم رؤية مختلفة قليلا عن نهج الأستاذ رحمه الله، تتحرك بالحاكمية من كونها خطابا للرفض فقط، إلى النظر لكلمة التوحيد بحسبانها أنَّ من إلهاماتها أن تزكي الخطاب السياسي والدستوري.   
عبر الاستاذ سيد عن الحاكمية من خلال “لا ” النافية الغاضبة، وعبر نص غاضب يزيح القائم، وينعزل عن السائد؛ وهذا التفكير يمثل جزءا من الحقيقة لأن شهادة التوحيد فيها نفي، ولكن فيها إثبات كذلك، والاثنان يعملان معا، ويحققان بعضهما بعضا، وكان الإمام أحمد الغزالي (شقيق الإمام أبي حامد) ينصح في رسالة لشرح كلمة التوحيد، بعدم الإقامة في منزل “لا” والعبور إلى المنزل الثاني “إلا الله”. 
 وإذا كانت سيطرة النفي على حاكمية قطب انتهت إلى تأسيس تيارات غضب ورفض، وتم التركيز على شعار “الحاكمية لله” كبرنامج مواجهة؛ فإن ديمقراطية التوحيد تمضي في اتجاه آخر هو محاولة التحدث عن التجلي السياسي والمؤسساتي للتوحيد، ويبحث عن كيفية انعكاس أضواء إيماننا بالله في إطار الحياة السياسية.

حتى الآن

 كيف نحقق النفي والإثبات، ونضع جملة الشهادة في إطار شامل؟ ومن خلال آليات الفكر القانوني والدستوري الذي يمنع أي سلطة أن تتخلق بأخلاق التأله من انفراد وعظمة واحتكار للحقيقة. 
لماذا الديمقراطية؟ نقول: هي مجرد وسيلة جيدة، حتى الآن، لوضع الحاكم السياسي في مكانه الطبيعي: الله متوحدا، والحاكم إنسانا غير متدثر بأردية التأله، وتجري عليه عوامل التعرية السياسية الاقتراعية، وتنزع عنه رداء السرمدية، فالله وحده هو الباقي.
 فنحن نعلم أنه بعد انقلاب الحكم الراشدي إلى الملك العضوض بدأت ظلال الحاكم تتصاعد بقوة، ومن فرط حضورها احتلت طاقة لا بأس بها من طقوس التمجيد والخضوع. صحيح أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه العصور الوسطى المسيحية من تأله للملوك لكنها كرست لحالة من التسلط.
كان برتراند راسل يقول: كل صاحب سلطة يود أن يكون إلها وقليلون هم من يصمدون أمام هذا الشعور. والبشرية لا تثق في قدرة الحكام في كبح نوايا التأله، بل إن الصالحين أيضا يفشلون في صد مخدر السلطة، وكان أبو حامد الغزالي يقول: آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب السلطة، لذلك اخترع العالم الكوابح والصادات التي تمنع هذا التغول، وفطرة الناس لحب الترؤس كما يقول ابن خلدون. لذا فالديمقراطية أو الشورى حتى الآن هي أفضل الطرق الكابحة التي تقطع طريق التأله السياسي.
والعجيب أن هذا المبدأ الدستوري الذي يمنع تأبيد الحكام، أول من نوه به عمر بن الخطاب الذي قال “هممت ألا أدع والياً أكثر من أربع سنين، إن كان عدلاً ملّه الناس، وإن كان جائراً كفاهم من جوره “، واعتبر ابن حجر أن من مذهب عمر أنه لا يستمر العامل أكثر من أربع سنين.

الضرورة والطارئ

فالديمقراطية تنقل الحاكم من فكرة الضرورة، وتضعه في خانة الطارئ، والضرورة وصف متعارف عليه عند الحكومات الرجعية، وهو يعني أن الحاكم قد يكون إنسانا فوق العادة، حيث تخلع عليه أوصاف القداسة والتبجيل، ولا يأتي الحاكم الضرورة الا في إطار معجزة، وقوى مجهولة تدفع به، حيث ينظر اليه كمبعوث سماوي جاء على قدر في لحظة فارقة ونقطة تحول.
 والديمقراطية هي فكرة المساءلة، ولا تعني فقط المحاسبة والرقابة الدستورية، بل هي مبدأ حياتي؛ فكل ما هو مخلوق محل سؤال واستشكال، والإلهي فقط هو الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. كما أن المساءلة تعني الندية والمعارضة، وكون الاعتراض فكرة كفرية في حق الله، لكنه ضرورة حتمية داخل أي نظام سياسي، وكل نظام يعتبر المعارضة الحزبية خيانة أو كفرا وطنيا أو دينيا، يرفع نفسه الى رتبة من رتب من التأله.
الديمقراطية هي عدو للفكرة الكلاسيكية “المستبد العادل”، وهو وصف يجمع بين الانفراد بالرأي “ما أريكم إلا ما أرى”، ونبل الهدف “أهديكم سبيل الرشاد”، والله حصريا الذي يمكنه فعل ذلك، فسلطته المطلقة قوة وعدلا هي حصيلة صفات الجلال والجمال، والإطلاق في حقه سبحانه كمال، والسلطة المطلقة عند البشر مفسدة مطلقة. 
وإذا كانت الحاكمية تعني أن الله هو الحاكم، يبدو السؤال: من الذي يترجم صوت الله؟ الحاكم أم الشعب؟ الديمقراطية تجعل الشعب هو الأقرب لأن يكون صوت الله، وحمل الشريعة، فما يراه الناس حسنا فهو عند الله حسن، ولا تجتمع الأمة على ضلالة. وعلمنا التاريخ أن الأمة الإسلامية ومؤسساتها كانت أكثر جدارة من السلطة في حفظ الإسلام في كل الأوقات، لاسيما وقت الفراغ السياسي وانكسار النظم.
لماذا يتخلق الحاكم المنفرد بالتأله السياسي؟ الإجابة تكمن في بنية الاستبداد السياسي، وحلول الدولة في الحاكم، وتشخصه فيها؛ حيث تصبح الدولة بكل مؤسساتها سمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فتحجب عظمة السلطان الموهومة أنوار الله عن قلوب الجماهير رغبة ورهبة.

دولة الحزب الواحد

والتعددية من سمات الديمقراطية، ومن خصائص التوحيد الواحدية، والبشري متعدد، والإلهي واحد، وكل ما دونه متعدد نسبي يخضع للرأي والحوار والنقاش، ووحدانية الله ليست نسبية أو تشاركية، بل وحدانية حصر؛ يعني أن الله وحده احتجز عنده كل معاني الوحدانية، وحتى نتمم تلك الحصرية لابد أن نحرص على التنوع في كل ما عداه سبحانه. يجب أن نثور أمام أي متخلق بالوحدانية وننفي أي أحادية سياسية متسلطة، سواء كانت دولة الحزب الواحد أو زعامة الرئيس الفرد.
والتوحيد معناه الانقياد لله وحده، وتلبية تلك الشهادة أرضيا تدفعنا إلى أن نعارض ونثور ضد كل من يزعم أن له حق الانقياد أو التسليم؛ لأن ادعاءه سعي نحو الاعتداء على تلك الحقوق التوحيدية لله. فمن التوحيد أن ننتهك كل من يتأله على الناس، حتى يصبح التوحيد نقيا للواحد. كذلك كل صفات الكبرياء والعظمة والأبدية، هي حصرية لله، هي صفات جلال وجمال، والموحد الحقيقي يمنع استنزالها على الأرض في شخص مؤسسات أو شخصيات، بل يخلق النظم السياسية والدستورية الكابحة لذلك.
 ومن التوحيد أن تفعّل وسائل الرقابة الدستورية على الحكام، لأن الله وحده فقط هو الذي “لا يسأل عمّا يفعل”، فبالتالي يجب محاربة نزوع الحكام للنأي عن المساءلة والرقابة. 

في الغرب

والديمقراطية ليست نمطا من أشكال الحكم، بل هي حياة اجتماعية، وليست خصيصة للمؤسسات السياسية بل هي شبكة واسعة من العلاقات الانسانية والمدنية، وكان مولانا جلال الرومي يرى أن الطغيان والتأله لايسطع فقط في المملكة الكبرى، بل وينمو أيضا داخل الممالك الصغرى من مؤسسات وإدارات للعمل.     
في الغرب، رأوا في لحظة ما أن الطريق إلى ملكية دستورية، وملِك يملك ولا يحكم، يبدأ بفكر ديني يجعل من الله ربا يملك ولا يحكم، لكن للإمام أبي حامد الغزالي في رسالة التوحيد، التي خصصها للسلطان محمد بن ملك شاه، رأي آخر، حيث قال في بدايتها: “أيها السلطان إنك مخلوق ولك خالق”، كتب الإمام رسالة في اصلاح التوحيد، ولكن في عمقها هي اصلاح في السياسة.  

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه