تركيا “كابوس” يلاحق قتلة خاشقجي

 
فترة شهر ونصف الشهر مرت على قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي على الأراضي التركية داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، وما زالت هذه القضية سيدة عناوين النشرات الإخبارية، و”عناوين” الصحف الحرة في العالم.
لم تبرد حرارة هذه الجريمة في قلوب أصدقاء وأحباب خاشقجي، ولم يلتهِ عنها كل حر في كل فج عميق، ولم يمل الساعون للحقيقة من المطالبة بمحاسبة من أمر ونفذ هذه الوحشية الفظيعة، كل ذلك أتى على عكس ما كان قد خطط له المجرمون.
المجرمون الضالعون بهذه الجريمة عوّلوا كثيرا على أن أقصى ما ستقوم به تركيا بُعيْد اكتشافها لفعلتهم الآثمة هو مجرد أخبار إعلامية هنا وهناك ومجرد استنكار وشجب، وإذ بهم يتفاجؤون أن تركيا تحولت إلى “كابوس” يطاردهم يقظة ومناما.. “كابوس” يذكّرهم ببشاعة ما اقترفوه ويعرّيهم أمام العالم تحضيرا لكشف كل مستور ونسف كل صفقة خبيثة.

ثمرة الإصرار التركي 

مما لا شك فيه أنه لولا الإصرار التركي على ضرورة كشف كافة ملابسات الجريمة وكل أسماء من أمر بها ومن نفذها، لما كان المعنيون في السعودية قد أصدروا روايتهم الأولى حول هذه الفظاعة، ومن ثم وبسبب استمرار الإصرار التركي، بدأنا نرى رواية تلو رواية من الجانب السعودي، وصولا إلى الرواية الأخيرة التي أصدرتها النيابة العامة السعودية، والتي لم يقبلها كل صاحب عقل ومنطق في هذا العالم.
ومن المتوقع أن تصدر قريبا رواية سعودية جديدة حول هذه الجريمة، الأمر الذي يؤكد ما يذهب إليه الكثيرون حول العالم أنه لا يمكن الوثوق بمن يروي كل يوم رواية مختلفة عن الرواية الأخرى حول قضية واحدة… لم يقتنع أحد في العالم بكل هذه الروايات ولا بالأخيرة منها، ومازال الأحرار ينتظرون أجوبة سعودية شافية حول: أين الجثة ومن هو المتعاون المحلي ومن هي الجهة السياسية التي أصدرت أمر قتل خاشقجي؟؟؟
لابد من التأكيد هنا أن القول “إن مسؤولا استخباراتيا سعوديا كبيرا هو الذي أصدر أوامر القتل”، هو قول غير منطقي لا يقنع لا طفلا ولا رجلا ولا امرأة ولا شيخا ولا سياسيا ولا إعلاميا ولا محققا في هذا العالم، إذ إنه من المستحيل أن تُقدِم عناصر استخباراتية في أي دولة بالعالم على تنفيذ مثل هذا الأمر دون تلقيها تعليمات من جهات سياسية، وبالتالي فإن الإصرار التركي على كشف هذه الجهات السياسية كان ومازال وسيبقى مستمرا حتى الوصول للحقيقة والعدالة، فمن سولت له نفسه أن يعتدي على سيادة تركيا وينفذ هذه الجريمة أخطأ خطأ كبيرا وسيدفع الثمن باهظا وإن غدا لناظره قريب.

أسئلة يتيمة 

هناك الكثير من الأسئلة التي لم تجب عنها الروايات السعودية وخاصة الرواية الأخيرة، أسئلة تؤكد حالة الإرباك ومحاولة التضليل:
أولا: ما مبرر إحضار جرعة مخدر مع الفريق الذي “حاول إقناع” خاشقجي بالعودة إلى بلاده؟!
ثانيا: ما هو الداعي ليكون رئيس الطب العدلي عضوا بهذا الفريق إذا كان الهدف مجرد “تفاوض وإقناع”؟!
ثالثا: كيف يكون هدف الفريق هو “التفاوض والإقناع” وفي نفس الوقت يُحضِر معه أدوات تقطيع الجثث بعد أن كان خطط للجريمة في 29 سبتمبر؟!
رابعا: أيعقل أن الجانب السعودي لا يعرف هوية المتعاون المحلي ـ إن صح أصلا أن هناك متعاونا محليا ـ وهو المتعاون الذي أوكل إليه تنفيذ جزئية خطيرة ضمن مهمة حساسة؟!
خامسا: كيف توكل مثل هذه المهمة الدقيقة لمتعاون لا تُعرف هويته ولا تُعرف نسبة الثقة به؟!
من سيحاكم المجرمين؟
ولا يقف “الكابوس” التركي عند هذا الحد بل إنه يمتد ليلاحق المجرمين أكثر وأكثر من خلال مطلب أنقرة بضرورة تسليم خلية القتل لمحاكمتها أمام المحاكم التركية فالجريمة وقعت على الأراضي التركية!
ولكن من الواضح أن الجهات السياسية في السعودية تحاول أن تهرب من هذا “الكابوس” من خلال عدم الاستجابة للمطلب التركي، لأن هذه الجهات تعلم علم اليقين أن هناك طرفا سياسيا أمر بقتل خاشقجي، وتعلم جيدا أنه في حال التحقيق مع عناصر هذه الخلية ومحاكمتهم في تركيا فإن هوية الطرف السياسي الآمر بعملية القتل ستتكشف للعالم على الفور.
يجب على السلطات السعودية أن تعلم جيدا أن الباب التركي مفتوح لها من أجل كشف الحقيقة دون تلاعب وتستر، ولكن هذا الباب لن يبقى كذلك طويلا فقد يتم إغلاقه بأي لحظة، وبالتالي الانتقال للمسرح الدولي الذي سيكلف السعودية باهظا على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهذا ما لا تتمناه تركيا الدولة الأكثر غيرة على كيان المملكة وشعبها وحقوقه، ولكن “ارتكاب أقل الضررين واجب”.
الضرر الأول هو الذي سيلحق بكيان الدولة السعودية وشعبها في حال أصرت السلطات هناك على التستر على المجرمين الحقيقيين، فالمجتمع الدولي الذي سيتسلم ملف جريمة خاشقجي لا يحب السعودية بل يكرهها كرها أسود وهو ينتظر مثل هذا الملف لابتزازها واستنزافها أكثر وأكثر.
أما الضرر الثاني وهو الأكثر سلبية وهو ما لا تريده تركيا ولا كل حر في العالم، فسيقع على الجميع في المنطقة في حال رضيت تركيا وأحرار العالم بالتستر على أي مجرم مشارك بهذه الفعلة السوداء، لأن مآسي شعوبنا في هذه الحالة ستزداد وتتفاقم فمن قتل خاشقجي بهذه الطريقة مستعد لما هو أفظع تجاه دول المنطقة.

أخيرا

“الكابوس” التركي سيظل يلاحق كل مشارك بهذه الجريمة، والأيام القليلة المقبلة حبلى بالمزيد من المفاجآت التي ستكشف الكثير من الأسماء والأحداث والتفاصيل والتسجيلات الحاسمة.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه