كتاب الثورة “4”| حكم العسكر

 

 

استحق “محمد علي” لقب “الجنرال الأول” أو “الجنرال المؤسس” لحكم العسكر، مع أنه ليس أول عسكري يحكم مصر أو غيرها، ومع أن القاعدة المطردة في معظم الدول، ظلت ـ حتى في العصر الحديث ـ أن الحاكم ينتسب إلى الجندية، إن لم يكن قبل تولي الحكم فبعده، وأن “الملوك” الذين “إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ”* هم “قادة الجند” وإلا فبأية أداة يفسدون؟

وقد استحق “محمد علي” هذا اللقب لثلاثة أسباب:

الأول : أن مجرد انتساب الحاكم للجندية لا يجعلنا أمام “حكم العسكر” الذي نشير به إلى “احتكار العسكر للسلطة والثروة، بمقتضى احتكارهم قوة السلاح، وإعلاء شأن هذه القوة على أية عقيدة أو قيمة أو حتى قوة أخرى”*. وهو المعنى الذي كرسه الباشا.

الثاني: أن “محمد علي” جاء ومصر في لحظة “بدت فيها” وكأنها تؤسس لحكم شعبي، فلم يكتف بأن قطع عليها الطريق، وأعادها إلى ما سبق، بل نقلها إلى ما هو أسوأ.

 الثالث: أن العلاقة بين نظام “محمد علي” وبين “الشعب” كانت قطيعة كاملة.

وكان “الجيش” الذي أسسه “محمد علي” قلبا لدولته ليكون “جيش الحاكم” وأداة فرض سلطته، مجرد “قوة استعمار داخلية” تضمن التزام مصر بإرادة القوى الاستعمارية، وتضمن انفصالها عن محيطها الإسلامي والإقليمي، الذي لم يتعامل معه الجيش إلا باعتباره “مساحة للتوسع” يذهب إليها محتلا، ويبقى فيها منفصلا عن أهلها، وقد يتنازل عنها تحت أول ضغط من القوى الاستعمارية، أو توددا لها. وهو ما رأيناه من حكم العسكر، منذ تخلى “إبراهيم باشا” لليهود عن مستوطنة في صفد، وفتح الباب أمام “خطة مونتوفيوري التي ترمي إلى استعمار اليهود بعض أنحاء سوريا وربوع فلسطين” إلى التنازل في عهد حفيده “عباس حلمي” لليهود عن مستوطنة في “كوم أمبو” قالت عنها “الأهرام فى عدد 19 من ديسمبر/كانون الأول 1903 “وقد علمنا من الثقاة الخبيرين أن هذا السهل سيكون بعد استصلاحه مستعمرة صهيونية إذ يؤتى لزراعته وإصلاحه بالفلاحين الإسرائيليين المعسرين كما فعل روتشلد فى فلسطين، وقد علمت جريدتنا أنه قد تم انتداب بعض الإسرائيليين للقيام بالأعمال التمهيدية”*. هذا ما رأيناه، وما زلنا نراه حتى الآن، من حكم العسكر حيث كان، مع كل احتلال وانفصال وبيع وهبة وتنازل عن الأراضي والأوطان.

الهيمنة الأمريكية

وهذا ما نراه من تبعية واضحة، تجعل من الجيش مجرد وكيل استعماري تسلحه الولايات المتحدة لصالح هيمنتها على قرار مصر واستباحة مقدراتها، مع إعادة تمويل تكلفة هذا التسليح من غلات مصر نفسها، وفي النهاية فإن الانتخابات الداخلية الأمريكية هي العامل الذي يؤثر في تسليح الجيش المصري، تأثيرا أكبر من السياسات المصرية نفسها، حيث “تحصل القوات المسلحة المصرية على أعلى مستويات التمويل الأجنبي والتمويل الأكثر تماسكا في مصر… ومصر من أبرز الدول المتلقية للمساعدات العسكرية الأمريكية إلى جانب إسرائيل… الولايات المتحدة تقدم مساعدات التمويل العسكري الأجنبي من خلال تدبير قانوني لتمويل التدفق النقدي الذي يسمح لمصر بإتمام عمليات شراء في سنة واحدة ودفع تكاليفها في السنوات التالية من خلال منح تكتسبها من مخصصات “مستقبلية” من الكونغرس. هذا يعني أن مصر تتلقى بطاقة ائتمان دون حدود وأن هذه الفكرة مدعومة بالثقة بأن تمويل برنامج التمويل العسكري الأجنبي سيستمر دون أي تغيير. تستند المساعدات العسكرية الأمريكية إلى مصر على دعم سياسي داخلي قوي في الولايات المتحدة، إذ إنها توفر عددا كبيرا من العقود وفرص العمل لصناعات الدفاع الأمريكية. وغالبا ما يأتي أعضاء الكونغرس الذين يدعمون المساعدات العسكرية إلى مصر من دوائر انتخابية يتم فيها تصنيع معدات الدفاع وهم يعتمدون على دعم صناعات الدفاع في حملات إعادة انتخابهم، وبالتالي في استمرار مسيرتهم السياسية. تؤثر هذه العوامل الداخلية بشكل كبير على حجم وطبيعة المساعدات العسكرية الأمريكية إلى مصر، وتساعد على تفسير بعض القرارات المتعلقة بهذه المساعدات، أكثر مما يفسره الوضع السياسي في مصر أو العلاقات الأمريكية المصرية” *.

وجيش يتنكر للأرض والدين ولا يخلص إلا للسلطة، هو جيش لا بد من اختيار عناصره بمواصفات خاصة، أولها ألا تربطهم رابطة بالقيم التي يمكن حملهم على التنكر لها، وألا يعرفوا لهم سيدا إلا آمرهم، صعودا إلى قائدهم، ثم حاكمهم. ويسجل “الجبرتي” محاولة أولى لبناء هذا الجيش في 2 من أغسطس/آب 1815م، اعتمد فيها “محمد علي” على جماعة من “الباشبوزق” أي الجنود غير النظاميين، الأقرب إلى طبيعة المرتزقة، قائلا “أمر الباشا جميع العساكر بالخروج الى الميدان لعمل التعليم والرماحة خارج باب النصر حيث قبة العزب، فخرجوا من ثلث الليل الاخير، واخذوا في الرماحة، والبندقة المتواصلة، وبعد ذلك رجعوا إلى المدينة في كبكبة عظيمة، حتى زحموا الطرق بخيولهم من كل ناحية، وداسوا أشخاصا من الناس بخيولهم، بل وحميرا أيضا، وأشيع أن الباشا قصده إحصاء العسكر وترتيبهم على النظام الجديد وأوضاع الإفرنج، ويلبسهم الملابس المقطمة، ويغير شكلهم، وركب في ثاني يوم الى بولاق وجمع عساكر ابنه إسماعيل باشا وصفهم على الطريقة المعروفة بالنظام الجديد، وعرفهم قصده، وفعل ذلك بجميع العساكر، ومن أبى ذلك قابله بالضرب والنفي بعد سلبه حتى ثيابه”*. وبديهي أن هؤلاء المرتزقة ضاقوا بهذه المعاملة وما فيها من تكليفات وتحكمات، وبلغ ضيقهم أنهم أرادوا اغتيال “محمد علي” للخلاص مما يفرضه عليهم، وهو ما يصفه “الجبرتي” بقوله: “وتناجوا فيما بينهم، وتفرق الكثير منهم عن مخاديمهم وأكابرهم، ووافقهم على النفور بعض أعيانهم، واتفقوا على غدر الباشا. ثم إن الباشا ركب من قصر شبرا وحضر الى بيت الازبكية، وقد اجتمع عند عابدين بك جماعة من أكابرهم في وليمة، فتفاوضوا بينهم في أمر الباشا وما هو شارع فيه، واتفقوا على الهجوم على داره بالأزبكية في الفجر، ثم إن عابدين بك غافلهم وتركهم في أنسهم، وخرج متنكرا مسرعا إلى الباشا، وأخبره ورجع إلى أصحابه، فأسرع الباشا في الحال إلى الركوب في سادس ساعة من الليل، وطلب عساكر طاهر باشا فركبوا معه، وأحاط المنزل بالعساكر، ثم أخلف الطريق، وصعد إلى القلعة، وتبعه من يثق به من العساكر”*.

هكذا إذا، هرب “محمد علي” من بيته، الذي تركه تحت حراسة قوية، إلى القلعة متحصنا بها، فماذا عن المتآمرين؟ يقول الجبرتي: “لم يسعهم الرجوع عن عزيمتهم (مؤامرتهم) فساروا إلى بيت الباشا يريدون نهبه، فمانعهم المرابطون (الحراس) وتضاربوا بالرصاص والبنادق وقتل بينهم أشخاص، ولم ينالوا غرضا فساروا إلى ناحية القلعة”*.

“الأمير” وإن لم يكن معه “ميكيافيللي”

استفاد “محمد علي” من درس تمرد “الباشبوزق” واكتشف أن هؤلاء أقرب إلى عصابة فقط، لا تعني لها البراعة في استخدام السلاح أكثر من القدرة على تهديد وابتزاز العزل والأقل تسليحا. لم يكن هناك “ميكيافيللي” إلى جوار الباشا لينصحه، وكان أميا لا يمكنه أن يقرأ كتابه “الأمير” لكنه ـ عمليا ـ تعلم ما سبق أن نبه ميكيافيللي أميره إليه، وهو يحذره من أن “الجيش المكون من المرتزقة لا قيمة له، فالمرتزقة لا ولاء لهم إلا للنقود”، بينما كان “محمد علي” يريد جيشا وفيا له وحده، يؤدي لصالحه مهمتي الحراسة والصيد، واضطر إلى الانتظار 6 سنوات بعد تمرد “الباشبوزق” الذي أفشل محاولته الأولى، وكلفه تعويضات كثيرة للعوام الذين تضرروا، وكاد أن يكلفه حياته.

لم يجد الباشا من يفي بمواصفاته المطلوبة أكثر من ضباط جيش نابليون “بونابرت” الذين أصبحوا بلا عمل منذ تسريحهم في 1815م، فاستقدم بعضهم، وعلى رأسهم  الكولونيل “سيف”* الذي عرف بعد ذلك بـ”سليمان باشا الفرنساوي” وهو من أسس “مدرسة أسوان الحربية” في  1820م، كما تولى إدارتها، وكانت نواتها الأولى ألفا من المماليك، منهم 500 من مماليك الباشا شخصيا (أي عبيده الأوفياء) تخرجوا ضباطا بعد 3 سنوات فكانوا نواة الجيش النظامي*.

وبعد أن توفر لديه الضباط، اتبع “محمد علي” المنهج نفسه في اختيار الجنود، منهج ضمان الولاء، فاستبعد الأتراك من دائرة اختياراته (خشية أن يجدوا دعما من السلطان في مواجهته) كما استبعد كل الأعراق ذات الحيثية في الدولة العثمانية، ومنهم الأرناؤد (الألبان) برغم انتمائه هو شخصيا إليهم، واستبعد المصريين، لأنه وقد رأى بأسهم، في قتال الفرنسيين والإنجليز وفي مواجهة السلطان العثماني، لدرجة فرضهم محمد علي نفسه واليا لمصر على غير إرادة السلطان، لم يكن ليأمن جانبهم إن هو وضع السلاح في أيديهم. ولهذا قام بتجنيد السودانيين من سكان كردفان وسنار، الذين استقدم منهم 20 ألفا، خصص لتدريبهم، على يد الضباط المماليك الذين تخرجوا من مدرسة أسوان، قصرا في بني عدي بأسيوط، تحيطه ثكنات فيها ما يلزمهم من أدوات وأماكن للإقامة والعلاج. لكن فشل التجربة أجبر الباشا على تجنيد المصريين، بعد أن استشرت الأمراض بين السودانيين، وكثرت وفياتهم، فاضطر محمد على إلى تجنيد المصريين، وخصص لتدريبهم ثكنات أنشأها في فرشوط*، تأكيدا لحرصه على عزلهم.

وبرغم (اضطراره) لتجنيد المصريين فإن “محمد علي” لم يتخل عن الحرص على استبعادهم، وعلى ألا تجاوز الاستعانة بهم أضيق الحدود، وقد وضح هذا في استبعادهم من حرسه الخاص، وعدم السماح لهم بالترقي إلى رتب الضباط والمناصب القيادية وهو ما يذكره، ويبرره على نحو لا يخفي نظرة الاحتقار، “كلوت بك” زاعما أن الجنود المصريين “في المراتب العالية لا يقدرون كرامة مراكزهم الجديدة ووجاهتها، فهم يغايرون العثمانيين والمماليك في الأهلية للقبض على زمام القيادة، وسرعان ما يتحولون إلى عاداتهم القديمة، ما اضطر محمد علي باشا وابنه ابراهيم، على الرغم منهما، إلى الكف عن ترقيتهم وترفيعهم إلى المراتب السامية في الجندية، ومن هذا النقص، أسندت إلى المماليك والأتراك المناصب العليا في الجيش”.

 

جنرال حوله أقليات متساندة

 

هكذا صاغ “محمد على” دولة الجنرال بشكلها النهائي الباقي حتى اليوم، دولة “الجنرال في القلب والأقليات المتساندة من حوله مع استبعاد الأغلبية”. وهي الدولة التي قامت أساسا لتكون نقيضا لدولة الإسلام، وجسرا لقوى الاستعمار، الذي اعتاد أن يصف “محمد علي” بـ “مؤسس الدولة الحديثة” و”باني مصر الحديثة” واعتاد الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ أن يصدقوه ويرددوا ما يقوله كالببغاوات، مع أنهم لو تأملوا ما تحت أعينهم لاكتشفوا الخدعة، وأدركوا حقيقة أن “الجنرال” صادر طموح مصر في أن تنشأ على أرضها دولة قابلة للحياة والتطور، وأقام بدلا منها قوة عسكرية أشبه بقوة احتلال، في بنيتها وفي أهدافها أيضا، مستعينا بأسوأ آليات وأدوات الحكومات الاستعمارية، وحكم المماليك، وقيم القرون الوسطى وعصور الظلام. وبالطبع لم يكن ممكنا أن تكون محصلة هذا “دولة حديثة” بل “جيشا له دولة” أو “جيشا” على هامشه “هيكل دولة” وهو ما اعترف به “السيسي” إذ وصف مصر بأنها “شبه دولة” .

لم تكن “الدولة” هي هدف محمد علي، بل “الجيش” الذي أراده درعا وسيفا له، جيشا لحماية الحاكم، يستخدمه ضد الشعب، ويسخره للقوى الاستعمارية لتحميه من السلطان، وليصبح ذا قيمة عندها. ولهذا فقد أسس الجيش أولا، تأسيسا مقلوبا بدأ بالضباط ثم بالجنود، وبعدها راح يقيم المؤسسات اللازمة لخدمة الجيش، وليس لتقدم الدولة ولا لرخائها، ومنها المطبعة والمعاهد العلمية والمستشفيات والمصانع، وأحسب أن وصف هذه المؤسسات كلها بالعسكرية هو الوصف الصحيح، لأنها ـ وإن كانت مدنية بطبيعتها ـ لم تقم إلا لخدمة الأغراض العسكرية، وظل وسم النشأة مصاحبا لها، وضامنا لمسيرة التبعية والتخلف، على نحو لا يمكن إصلاحه، ولا بد من ثورة تهدم بنيته*.

إن استبعاد الأغلبية يعني ـ بالضرورة ـ غياب الرقابة. واستشراء الفساد هو مؤدى هذا الغياب البنيوي للرقابة، التي تمارس، إن مورست، على نحو صوري أشبه بألعاب الأطفال التي يوزعون فيها على أنفسهم أدوارا مدعاة. إنها رقابة بعض الأقليات المتساندة على بعضها الآخر، في حدود إرادة الجنرال، وإطار “دولة كأن” كما كان يسميها الأستاذ “كامل زهيري” حيث لا يوجد شيء حقيقي، فكأنها دولة وكأنها مؤسسات وكأنها رقابة وكأنها انتخابات، حتى الحراك الثوري أدير في حدود “كأنها ثورة”.

بلا هوية ولا انتماء

ومن الخصائص الحاكمة لدولة الجنرال أيضا ضعف الانتماء، فالجنرال لا يمكنه الالتزام بأية هوية، ولا الاستمرار على أي مسار، وإنما هو يعمل في حدود مصلحته الضيقة مهما كانت محدودة وكانت تكلفتها ضخمة. وخذ ـ مثلا ـ الموقف من الكيان الصهيوني، الذي انتقل ـ في ظل دولة الجنرال ـ من إدانة من يلفظ كلمة “إسرائيل” بالعمالة إلى إدانة من يرفض نطقها بالإرهاب! وفي هذا السياق يمكن أيضا أن نتذكر الموقف من “العروبة” الذي انتقل من اعتباره “أصلا قيميا” إلى تسميته “شعارا حنجوريا”. ومن الأمثلة بالغة الفجاجة حرب التحرير التي خاضتها أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي، 24 من ديسمبر/كانون الأول 1979 – 15 من فبراير/شباط 1989م، والتي سماها الرئيس المصري الأسبق “محمد أنور السادات” جهادا صرح بأنه شارك فيه بالسلاح، وطلب من الشعب المشاركة، والتبرع للأفغان خصوصا بالأغطية والملابس ليستعينوا بها على طقس جبالهم البارد، ثم وبعد شهور قليلة كان الرئيس الذي خلفه في منصبه “محمد حسني مبارك” يعتبر من استجابوا لنداء “السادات” بالمشاركة إرهابيين، يحكم عليهم، ويعذبهم لصالح أمريكا، أو يرسلهم إليها لتقتلهم بمعرفتها، في سياق ما سمي بمحاكمات “العائدين من أفغانستان”. هكذا، لأن الجنرال لا يمكنه الالتزام بهوية، ولأنه حريص على استبعاد “الأغلبية” وبالتالي استبعاد هويتها، ولأن القرب من الجنرال أكسب “الأقليات” المتساندة حظوة خاصة، أصبحت الهوية عبئا على أصحابها، وأصبح المواطن المصري هو الوحيد تقريبا في العالم كله الذي يفخر بأصوله غير المصرية، كأنه يتهرب من الانتماء إلى الأغلبية المهمشة المسحوقة، فرارا من “الدونية” التي تعامل بها، ويكفي أن تنظر إلى صالات السفر والاستقبال في مطارات مصر، لتراها على عكس مطارات العالم كله، تخصص المخارج الأقل ـ والأكثر ازدحاما ـ لمواطنيها، والمخارج الأكثر والأفضل خدمة للأجانب، كما يكفي أن تتذكر عبارة أم “جوليو ريجيني” الباحث الإيطالي الذي قتله عسكر السيسي، بعد أن عذبوه بصورة بشعة، لخصتها أمه بقولها “عذبوه وقتلوه كما لو كان مصريا” مؤكدة أنها “لم تتمكن من التعرف على ولدها إلا من أرنبة أنفه”*!

ويصف ضابط القوات الخاصة الجزائرية “حبيب سويدية” شيئا من فظائع حكم العسكر، التي تورط في المشاركة فيها ـ ولو بالمشاهدة ـ قائلا: “رأيت زملاء لي يحرقون طفلا، فى الخامسة عشرة من عمره، حيا. رأيت عسكريين يذبحون مدنيين وينسبون هذه الجرائم إلى الإرهابيين. رأيت عقداء يقتلون أشخاصا بدم بارد، لمجرد الشبهة. رأيت ضباطا يعذبون إسلاميين حتى الموت. رأيت أشياء كثيرة جدا. لا أستطيع السكوت. وهذه أسباب كافية جدا لتحطيم حاجز الصمت. لماذا انتظرت إذن حتى اليوم كي أشهد؟ لأنني لم أستطع القيام بهذا من قبل: سجنت بغير وجه حق أربع سنين (من 1995 حتى 1999م)…. باستطاعتي اليوم الرد على تلك الأصوات التي مازالت تعلو في الجزائر وفي أماكن أخرى، لتبييض نظام الجنرالات. وإذا قررت، مع هذا الكتاب، أن أشهد، فذلك بالدرجة الأولى من أجل تحرير ضميري، لأني لا أريد بأية حال أن أشعر بأني شريك في جرائم ضد الإنسانية. فلقد قامت بالفعل منذ عام 1992 سياسة تصفية للمعارضة الإسلامية دعا إليها الجنرالات الجزائريون بالتواطؤ مع بعض “الشخصيات السياسية”. يردد هؤلاء وأولئك في الكواليس أن المرء “لا يستطيع مكافحة التيار الإسلامي مسلحا بإعلان حقوق الإنسان”. وهذا يلخص تماما عقلية “أصحاب القرار” الحقيقيين في الجزائر”.

ضد دولة العسكر

لهذا نثور على حكم العسكر، ولهذا نسعى إلى هدم دولته، التي لا يمكن لمصر ـ ولا لغيرها ـ أن تعرف في ظلها إصلاحا ولا حرية ولا رخاء ولا تقدما، وليست أزمة دولة الجنرال في فساد عناصرها، ولا لوحشيتها، بل لكون آلياتها ـ على الأصل ـ لا تنتج إلا الفساد والوحشية*، نتيجة ما أشرنا إليه من استبعاد الأغلبية، إضافة إلى عدم التكافؤ المطلق في القوة بين الجنرال من ناحية وأقلياته من ناحية أخرى. فالجنرال، وبموجب امتلاكه القوة المطلقة، يهيمن على كل شيء من مصادر الثروة إلى القيم المعنوية، ومن عداه مجرد أشباح، لا يملكون إلا الامتثال لأوامره فور صدورها، حتى وإن كان جديدها يناقض قديمها.

ثم إن إثبات التناقض ـ مهما ثبت ـ لن يقدم ولن يؤخر، فالأصل أن الأوامر صدرت لتنفذ فورا، وأنه لا يوجد معيار يمكن الاحتكام إليه لتقدير التناقض، فلا دين ولا دستور ولا قانون يمكن أن يحكم إرادة الجنرال، ولا مؤسسات تقوم بعملها بعيدا عن هذه الإرادة، وإنما الكل جنود ينفذون الأوامر، وهكذا فإن القضاة “عسكر في حالة قضاء” والإعلاميون “عسكر في حالة إعلام” والساسة “عسكر في حالة سياسة” وأصحاب العمائم هم “عسكر في حالة إفتاء حسب الطلب” والكهنة “عسكر في حالة كهنوت عند الحاجة”، وليس لمن يغادر الصف إلا القتل والنفي والسجن، مع التشهير به في كل الأحوال، من أول اتهام “عمر مكرم” بالتزوير في دفاتر الأشراف، إلى اتهام الثوار بالعمالة والإرهاب.

وكان خطأ الذين غلبوا على أمر الحراك الثوري في مصر أنهم، وبدلا من أن يحشدوا الجماهير ويقودوا الأغلبية لاستكمال رحلتها (رحلة الأغلبية) من الغياب إلى الحضور، أعادوا إنتاج دولة الجنرال، بالإبقاء على قيمها، ومؤسساتها، وتحالفوا مع الجنرال ضد جماهير الثورة، التي صادروها لصالح دكاكين وصفوها بأنها “قوى سياسية”، سقف طموحها هو الاكتفاء بدور “إدارة بوجوه مدنية” في ظل هيمنة الجنرال، الذي لا يلام على أنه لفظهم لفظ النواة بعد ذلك، فلا أحد يطعم السمكة بعد صيدها* والنواة لا مصير لها إلا أن تلفظ على أية حال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • إشارة إلى قوله تعالى “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وكذلك يَفْعَلُونَ” النمل ـ 34.
  • التعريف يغطي حكم العسكر من طرفيه، الطرف الأول: الطريقة التي تم الوصول بها إلى الحكم، وهي القوة المسلحة، سواء أطلقوا لها العنان، أو اكتفوا بحدها الأدنى، وحتى إن اقتصروا على التلويح بها، ذلك أن القوات المسلحة ـ خاصة فيما يعرف بالدولة الحديثة، تحتكر حق امتلاك واستخدام أسلحة “الدمار الشامل” التي لا يمكن قياس قدراتها إلى أية أسلحة أخرى يجوز للأفراد حيازتها، بالغا ما بلغت قدرات هذه الأخيرة. والطرف الآخر لتعريف حكم العسكر هو استمرار الاعتماد على القوة المسلحة والتهديد بها مستندا للحكم.
  • النيل في خطر ـ كامل زهيري ـ مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1999م ـ صورة لخبر الأهرام ص 267.
  • حكم القطاع الأمني في مصر: العلاقات المدنية العسكرية تحت المجهر ـ مؤتمر مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة الدولي للخبراء، مونترو، سويسرا، 2 ـ 4 من نيسان/أبريل 2014 ـ تقرير المؤتمر ـ ص 17
  • عجائب الآثار في التراجم والأخبار ـ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي ـ الجزء الرابع ـ ص 350 ـ مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1997 (عن طبعة بولاق).
  • المرجع السابق.
  • المرجع السابق ـ ص 351.
  • الكولونيل سيف “قاتل (الجيش البريطاني) ملاحا في موقعة الطرف الأغر، وجنديا في موقعة ووتارلو”. (تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل ـ المستر جورج يانغ ـ تعريب علي أحمد شكري ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة ـ مصر ـ الطبعة الثانية 1416 هـ، 1996م ـ ص 85)
  •   عصر محمد علي ـ عبد الرحمن الرافعي ـ مصر ـ القاهرة ـ دار المعارف ـ الطبعة الخامسة ـ 1989م ـ ص 327.
  • السابق ص 329 وما بعدها.
  • ولهذا يقال إن “مصر جيش له دولة وليست دولة لها جيش”.
  • The new york times – Why Was an Italian Graduate Student Tortured and Murdered in Egypt? – By DECLAN WALSH – 15,AUG 2017.
  • الحرب القذرة “شهادة ضابط سابق في القوات الخاصة بالجيش الجزائري 1992 ـ 2000” ـ حبيب سويدية ـ ترجمة روز مخلوف ـ الطبعة الأولى 2003 ـ ورد للطباعة والنشر والتوزيع ـ سوريا ـ دمشق ـ ص 26، 27.
  • حتى في دولة تتمتع بدرجة عالية من الديمقراطية في ظل حكم مدني، فإن الفساد إذا استشرى داخل الجيش يصعب جدا إصلاحه، حسبما قال الملازم أول “لويس غونزالو سيغورا ـ LUIS  GONZALO SEGURA” في كتابه “خطوة إلى الأمام ـ Un paso al frente” ومقابلاته الصحفية، وفي صفحته الخاصة بموقع فيسبوك https://www.facebook.com/luisgonzalosegura/ وهو الذي قضى اثني عشر عامًا في الخدمة العسكرية في الجيش الإسباني، وقال إنه لم يعد يحتمل مشاهدة جميع أنواع الانحرافات وهي ترتكب علانية من قبل القيادات العليا، فقرر فضح الوضع الذي يعرفه القليل من الإسبان، في كتابه الذي حكم عليه بسببه في 18 من يوليو / تموز 2014 بالحبس شهرين في سجن عسكري. يقول سيغورا: توقف تدفق الأخبار من الجيش إلى الخارج. وانعدمت حرية التعبير لدى الجنود، هذا التوقف مازال سائدًا بشكل كبير، حيث أصبحت القوات المسلحة دولة موازية وكتومة بالكامل بالنسبة للمجتمع الاسباني. وفي العام 2010، تم تكليف سيغورا بالقيام بجرد للمعدات المعلوماتية، حيث وجد وفقًا لتصريحاته: مخالفات مالية بنسبة 25 إلى35 في المئة تقدر بمليارات اليورو، وعندما حاول إبلاغ القضاء العسكري، قام القاضي والمدعي العام بغلق القضية من دون حتى مراجعة المعلومات. ويلمح سيغورا في كتابه إلى اختلاسات محتملة وتقصير في الرقابة على الوقود والطعام وبيع المعدات على شبكة الإنترنت والإقامات الصيفية، ونوادي الغولف، والمنتجعات وغرف الشخصيات المهمة. ويقول إن هذه التجاوزات وضعت الجيش في حالة اقتصادية خطيرة. ويقول سيغورا: في الواقع هناك فائض كبير في عدد القادة. ومن المشاكل  أن الجيش يقوم على 42 ألف جندي، يعاملون كالكلاب، وبعقود عمل غير دائمة ذات أجور زهيدة. ولدينا 52 ألف قائد (أي أن القادة أكثر من الجنود بعشرة آلاف!) وأي شخص يمتلك نصف عقل يدرك أن هذا غير مقبول. ويقول سيغورا: للأسف في إسبانيا فإن الكثير من مناصب الجيش موروثة. لدينا 270 جنرالًا مع أن 20 سيكون عددا كافيًا؛ ولدينا 1050 عقيدًا مع أن 50 عقيدا هو عدد سيكون كافيًا. هذا يبين الفائض في الضباط كمثال على كيفية تحرك الكيان العسكري بحثًا عن المصلحة الخاصة. وعزا الملازم أول الفساد في الجيش إلى الحصانة داخل هذه المؤسسة، حيث العدالة، والشرطة ومدققو الحسابات ينتمون إلى كيان القوات المسلحة نفسها، بالإضافة إلى غياب مرحلة انتقالية حقيقية داخل الجيش. ويقول سيغورا: كان هناك اتفاق غير رسمي بين أعضاء المجتمع المدني وقيادات الجيش حيث لا يتدخل أحد في مجال الآخر. رغم كون ذلك منطقيًا حتى العام 1990، بسبب خطر الانقلاب العسكري، ولكن من غير المفهوم أن يظل هذا قائما حتى اليوم. ويشير إلى أن الولاء لرفاق السلاح يأتي فوق الولاء لإسبانيا وللشعب. وفي رسالة كتبها إلى وزير الدفاع اقترح سيغورا 19 إجراء، يقول عنها إنها: ستجعل الجيش مؤسسة شريفة وأكثر نزاهة. مشيرا إلى أن القوات المسلحة تعاني وتحتاج إلى إصلاح. وهو ما أهمل جملة وتفصيلا. مع هذا علينا أن نردد مع الشاعر محمود درويش “ألف شكر للمصادفة السعيدة” التي نأت بسيغورا عن أن يكون من رعايا “جيش له دولة” ولأنه إسباني، فقد أمكنه أن يصدر 6 طبعات من كتابه خلال 4 أشهر من نشره للمرة الأولى في العام 2014، كما أنه يدير صفحة على فيسبوك يدعمه من خلالها أصدقاؤه الذين اكتسبهم حول العالم.
  • مثل روسي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه