محمد منير يكتب: العسكرى الشامل

المزاعم حول أزلية الحكم العسكرى لمصر تفسيرات ساذجة لمرحل تاريخية ذات واقع مختلف، فالعالم كله قبل الاستقرار عرف الأسلحة، ليدافع بها عن نفسه ضد الحيوانات المفترسة. يتبع

محمد منير*

كانت سيدة الغناء العربى أم كلثوم متميزة بحسن الفطنة والذكاء الاجتماعى والقدرة على التعبير الساخر، وعندما عبر لها أحد االموسيقيين فى فرقتها عن حيرته ما بين إلحاق اابنه بكلية الهندسة ليصبح مهندسا أو بكلية االطب ليصبح طبيبا، أجابته ساخرة “أدخله الكلية الحربية يطلع كل حاجة”.

كان هذا الحوار في الستينيات وقت أن كانت العسكرية المصرية تسيطر على كل جوانب الحياة فى مصر؛ الاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية.

الحكم العسكرى بعد الحرب العالمية الثانية كان ضرورة للتخلص من الحالة الاستعمارية التى كانت سائدة فى العالم، خاصة بعد تغيير خريطة العالم وكان مقبولاً فى جمهوريات أوربا وآسيا، فكان “ديغول” فى فرنسا و”ستالين” فى الاتحاد السوفيتى، وفى بلدان العالم الثالث افتتح القائمة تنظيم الضباط الأحرار فى مصر بقيادة اللواء محمد نجيب الذى سرعان ماتم إزاحته عن السلطة، وصعود الصاغ جمال عبد الناصر محله، ليستمر العسكر فى حكم مصر منذ عام 1952 حتى الآن.

تطور الحال فى أوربا وآسيا مع انتهاء مرحلة الحروب الكبرى وبدء مرحلة الاستقرار والتطور والتنمية، وظهور النظريات الاقتصادية الجديدة وتراجع الحكم العسكرى كضرورة فى مراحل الحروب الكبرى وأفسح المجال للسياسيين والاقتصاديين لتحقيق التنمية ومسايرة التطور التكنولوجى الهائل والثورة الصناعية، كما تراجعت الكولونيالية (الاستعمار العسكرى) كأداة من أدوات الإمبريالية (الهيمنة الاستعمارية) وصعود أدوات الاستعمار السياسى والاقتصادى.

دعم الغرب للحكم العسكرى
لم تساير معظم دول العالم الثالث التطور الحادث فى العالم ورفض العسكريين إفساح الطريق للاقتصاديين والسياسيين لتولى قيادة الدول، وهو الأمر الذى وجدت فيه الدول الاستعمارية الغربية فرصة لاستمرار هيمنتها على هذه الدول بعد أن قضت حركات التحرر العالمى على الاستعمار العسكرى كأداة للهيمنة، فدعمت هذه الدول الغربية الحكم العسكرى، فى بلدان العالم الثالث وباركته وساندته وشاركت فى العديد من الانقلابات على النظم المدنية وتحويلها إلى نظم عسكرية.

بعض أدعياء الثقافة والفكر من المستفيدين من حكم العسكر يروجون أن مصر لا تعرف إلا الحكم العسكرى منذ فجر التاريخ وأن الحكم المدنى غير ملائم لها!!

الانتقال من الحكم العسكرى إلى الحكم المدنى فى أووبا إنما يؤكد أن هناك إمكانية للحكم المدنى عند انتهاء ضرورة الحكم العسكرى، وهو ما يمكن تطبيقه فى مصر، خاصة وأن الحكم العسكرى فى مصر لم يحقق نتائج تنموية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا علمية.

كما أن المزاعم حول أزلية الحكم العسكرى لمصر تفسيرات ساذجة لمرحل تاريخية ذات واقع مختلف، فالعالم كله قبل الاستقرار عرف الأسلحة، ليدافع بها عن نفسه ضد الحيوانات المفترسة، وبعد الاستقرار والحدود والتبادل السلعى ظهر الاحتياج للجيوش للدفاع عن مصالح الجماعة ضد المطامع البشرية، والتى تسبب الحروب والمشاحنات، وكان من الطبيعى أن يتولى مهمة الدفاع عن الجماعة قائد الإقليم أو قائد القبيلة الذى كانت مهمته حماية الجماعة وتوفير الغذاء والاستقرار لها (التنمية)، ثم أصبح بعد ذلك نصف إله، ليضمن مساندة القوة الغيبية.

ومع التطور الحضارى لم يتمسك الملك الفرعونى بقيادة الجيش وعرف التاريخ الفرعونى قائد الجيش الذى كان يتلقى أوامره من الحاكم الذى يوجه معظم جهوده لتنمية الجماعة وحمايتها وتطويرها، ومع ذلك كان من الممكن أن يشارك فى العديد من الغزوات العسكرية باعتباره الحاكم ونصف الإله.

وظل تاريخ مصر مملوءًا بالغزوات والأطماع والصراعات، لذلك ظل هناك ارتباط وثيق بين الحكم والعسكرية، خاصة فى فترة المماليك وبعدها الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الانجليزى والحروب العالمية الأولى والثانية، وبعدها ظل هذا الارتباط بين الحكم والعسكر موجود دون ضرورة لذلك، رغم تحرر معظم دول العالم منه، وهو ما يفسر الفروق الحضارية بين الدول النامية والدولة المتقدمة، إنه الفرق بين حكم العسكر والحكم المدنى.
____________________

* كاتب وصحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه