أمّ تغنّي- طفلٌ يقاوم

لم تعُد الأمّهات تغنّي، كم غاب من الجمال عنّا. وكم فقد الطفل الفلسطينيّ تحديدًا أصدقَ ما منحته أغاني الأمهات ، من أمنٍ وأمانٍ يعوّض قُبح الواقع، ومن أملٍ ينمو بمستقبلٍ أكثر إشراقًا، بل وبحياةٍ تستحقّ أن يقاوم لأجلها

أنوار سرحان (أرشيف)

*أنوار سرحان

 لم تعُد الأمّهات تغنّي، كم غاب من الجمال عنّا. وكم فقد الطفل الفلسطينيّ تحديدًا  أصدقَ ما منحته أغاني الأمهات، من أمنٍ وأمانٍ يعوّض قُبح الواقع، ومن أملٍ ينمو بمستقبلٍ أكثر إشراقًا، بل وبحياةٍ تستحقّ أن يقاوم لأجلها.

لعلّ المتتبّع لتراثنا الشعبيّ يدهشه كيف بدت الأمّ الفلسطينية (حتى الأميّة) بفطرتها مدركةً وواعية لاحتياجات كل مرحلة حسيًّا وحركيًّا ونفسيًّا وذهنيًّا، وكم نجحت في بناء وتطوير شخصية طفلها عبر الأغاني والتهاليل المقدّمة منها إليه. 

لقد كانت كلّ أغنيةٍ تلائم مرحلةً من التطوّر الحسيّ الحركيّ وتجيب على ما يتجدّد من احتياجاتٍ عاطفيّة ونفسية، تقدّمها الأمّ في احتضانٍ دافئ ونبرةٍ شجية تقول لطفلها إنك مركز كَوني، وإنّ لك عالمًا أنت أهمّ ما فيه، ممّا يسهم ببناء طفلٍ واثقٍ مُقبل على الحياة قادرٍ أن يتشبّث بها ويدافع عن مكانه ومكانته فيها ويواجه تحدّياتها .

فإذا جاء وقت النوم تهدهد الأمّ طفلها ب “التهليلة”، ليتسلل النوم إليه حانيًا دافئًا، بينما تغني “زقف زقف نينة” إذ يحتاج ملاءمة كفّ لكفّ، و”حطي الزيت يا حجة” حين يصير مطالَبًا بفصل سبّابته من بين أصابعه ليلائمها في كفّ ثانية، قبل أن تأتي “دادي حطة بطة” أغنيةً لخطواته الأولى زاخرةً بالدعم والتشجيع وتعزيز الإحساس بالقدرة من جهة، وبوجود المتكأ والسنَد الداعم من جهةٍ أخرى.

إشارات تكفي الباحث في علم النفس التطوري ليشهد أنّ أبسط أمّهاتنا ملكَت في أعماقها (وبفطرتها التلقائية) ما احتاج علماء النفس والتربية أعوامًا لإثباته عبر نظريات التعلّق والأمان العاطفيّ والتطوّر العاطفيّ وما حذا حذوها، ممّا يعدّ سبيلًا لتنشئة إنسانٍ واثق بقيمة وجوده وأهميّة كيانه، كما بقدراته.

ولمّا جاء وقتٌ غاب صوت الأمّ التي  صمتت عن الغناء والتهاليل، حضر البديل بشكلٍ أساسيّ عبر الميديا ببرامجها التجارية في غالب الأحيان. ومع ذلك ظلّ الطفل الفلسطيني (بل العربيّ عمومًا) مغبونًا  من هذي البرامج إن قسناه لأيّ طفل آخر .

تعالَوا نتوقّف مثلًا عند أغاني أفلام ديزني التي تقدّم بالإنجليزية أو الفرنسية نموذجًا يُمنَح للطفل بقالب إنسانيّ هادئ يهَب الإحساس بالدفء ويربّي من لديه وجدانًا حقيقيًّا وأمانًا عاطفيًّا وهدوءًا نفسيّا (والتي غالبًا يشاهدها الطفل وهو في حضن والدَين يغمرانه بالحبّ والاحترام أيضًا)،  ولننتبه إلى ترجمات هذي الأغاني أو الأفلام  كاملةً، (والتي يتلقّاها طفلنا وحيدًا أغلب الأحيان للأسف)، ولنسمع مثلًا الأغنيةَ التي تأتي على لسان القردة لطرزان الصغير بصوت فيل كولين “you will be  in my heart ” ، والتي تنسكب هدوءًا يليق ببناء طفلٍ واثقٍ يتحلى بالأمان النفسي والعاطفيّ، لا ريب ستنسكب دموعنا وجعًا على أطفالنا إن أصغينا إلى صيغة الترجمة العربية المزدحمة بالضجيج والصخب والخالية من صدق الإحساس، صيغة تكفي لتشهد بأنّ أغنيةً أو فيلمًا يكفيان لتشويه نفسية أجيال، ولبناء إنسانٍ مشحون بالطاقات السلبية (والتي لا تنقصه لا عبر نمط الحياة اليوميّ ولا عبر ما يسوّق إليه من برامج أخرى).

ذات الأمر يواجهنا إذ نشهد كيف تتحول أغاني سيلين ديون المنسابة حنينًا، إلى نشاز تيمون وبومبا الأشبه بقرقعة طبول تكفي لتشحن سامعها بما يثير أعصابه ويبدّد طمأنينته ويعزّز ضوضائيّته.

فأمّا الطفل الفلسطيني الذي لم يتوقّف اغتيال طفولته على واقعٍ من النكبات المتناسلة، ومن الحروب والموت والقتل والنزف والتشريد وسواها، ولا عند غياب قياداتٍ تُعنى به وتحترمه وترى فيه ما يستحقّ النضال لأجله، والذي أيضًا بات يعاني غياب دفء هدهدة الأسرة الحانية التي تجيد الاحتضان والحبّ والغناء ومنحَ الفرح مهما أحلك الواقع، ويحيا مع وجود البديل في ما يقدَّم بالميديا من تشويهٍ وفظاعات.

 فإنّ الضوضاء لاحقَته أيضًا إلى عمق المدارس ورياض الأطفال، إذ ظلّ أدب الأطفال ميدانًا شبه خالٍ من مبارزين حقيقيين، ففتح المجال على مصراعيه لكلّ من أراد التنكيل بطفولة أطفالنا سواء عبر كثيرٍ من القصص التجارية التي تسخّف الوعيَ ، أو عبر الأشرطة والأغاني والمهرّجين الذين يكفي ما يقدمونه ليرسّخ في ذهن الطفل ما يشوّه إنسانيّته وثقافته وتنشئتَه.
من الجانب النقيض نجد ما قدّمته فنانات أعدنَ للأغنية الفلسطينية كثيرًا من مجدها، عبر تقديمها بأصواتٍ جميلة وتوزيع موسيقيّ متميّز كما فعلت سناء موسى وريم بنا وأمل مرقس على سبيل المثال لا الحصر ، ولكنّ معظمها فيما يخصّ تهاليلَ الأطفال أخلصت لماضيها وغاب عنها المستقبل، فهي إن كانت توثّق نكبة شعبنا وتهمس للطفل إنك منكوبٌ جيلُا بعد جيل، إلا أنها لم تمنحه بارقة أملٍ بما يتعلّق بالغد الأجمل، بل ظلّت في معظمها متوقفةً عند حفظ الذّاكرة دون فتح كوى تبشّر بالقادم الأجوَد. ويكفي أن يسمع الطفل هذي التهليلات ليسكنه الحزن الذي لن يجد في نهايته ما يشير إلى فرحٍ قد يأتي ولو حلمًا. لعلّ قليلًا جدًّا  ما حمل الأمل والطمأنينةَ ، كما في بعض أناشيد سوزان قزموز مثلًا .
طفلنا إذن، وبعد أن حرمه الواقع السياسيُّ أن يشعر بإنسانيّته،  حرمناه أيضًا أحضاننا الدّافئة وهدهداتنا الصافية، بل والإحساس بمكانته لدينا، ثمّ  تركناه بين ثقافةٍ تجارية سطحية مشوّهة أو  فنّ راقٍ يجيد الإخلاص للجرح ولا يبثّ الأمل بالشفاء.

والسؤال الذي يلحّ إذن : كيف سيدافع عن الحياة من لم ينشأ على حبّها والأمل بها ؟ وهل الأجدى أن ننشئ طفلًا يعي نكبته التاريخية فقط، أم أن نضيف إلى ذلك ما يكفيه من أمنٍ وأمان وأملٍ وقوةٍ وثقةٍ ليدرك قيمةَ الحياة وليدافعَ بحكمةٍ ووعيٍ ويقينٍ عن حقّه فيها وعن مستقبلٍ يعوّض غبن التاريخ ويطبّب جراحَه؟ وكيف سيتشبّث بحقّه في حياةٍ يعيشها مكرَّمًا مَن لم يتسلّل له هذا الحقّ عبر تنشئةٍ تمنحه القيمة والمكانة التي يستحقّ؟.

إجابتنا على هذي التساؤلات متعلّقة بسؤالٍ أعمق من حقّنا أن نطرحه:  فهل نخلص للذاكرة ولذكرى نكبات الجدّ إمعانًا في التعلّق بالماضي أم إيمانًا بقيمة المستقبل وأحقيّة الحفيد بحياةٍ أفضل؟ .

وبصيغةٍ أخرى: من هو المقاوم القادم؟ طفلٌ نشأ على حقّه في الحياة أم طفلٌ ورث حقّه بالموت؟
 أسئلةٌ قادرةٌ أن تحاور كثيرًا من رؤانا النضالية، وأن تؤثّر في رؤيتنا لمساراتٍ لعلّنا أغفلناها .

ألا يحقّ لنا إذن كمؤمنين بالإنسان وبالطفولة (مرآةً لفكر المجتمعات وثقافتها )، وبحقّ هذا الشعب في عَيشٍ يليق به، أن ندّعيَ أنّ من المقاومة الحقّة بناء أطفالٍ مؤمنين بذواتهم آمنين نفسيًّا وعاطفيًّا، وأن نطالبَ بالعودة إلى أمومةٍ وأبوّةٍ ترسّخ هذا، وأن نرجوَ سماع أغاني وتهاليل وهدهداتِ الأمّهات لبناء طفلٍ واثقٍ ، بدل أن نسمعها زغاريدَ وداعٍ لروحه في الشهادة؟!
______________

*كاتبة فلسطينية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه