عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة 15]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي

جاء الاستفتاءُ على الدستورِ- الذي أُجري في الداخل، في منتصف ديسمبر 2012- في ذِروةِ الاستقطابِ بين نظامِ الحكمِ، وبينَ قوى المعارضةِ.

تقرير| سليم عزوز

وكانت المعارضةُ دعت أنصارَها للتصويتِ بـ (لا)، وهي نتيجةٌ كان ينبغِي للمعارضةِ أن تَبنيَ عليها، لكنّها رفضت الاعترافَ بها، واندفعت تشككُ في نزاهتِها، ومن ثم استمرتْ في نضالِها ضدَّ الدستورِ، وإن كان الدكتورُ عبد المنعم أبو الفتوح رئيسُ حزب مصر القوية، أقرّ بالنتيجة، وطالبَ الرئاسةَ برأبِ الصدعِ.

النتيجةُ لها أكثرُ من قراءةٍ، فبحسبِ الظاهر من الأوراقِ أنَّ الرئيسَ ومن معه فازوا في هذا الاستفتاءِ، فهناك حوالي 10 ملايين و700 ألف مواطن، بنسبة 63.8 في المئة صوّتوا بـ (نعم)، في حينِ أن نسبةَ الذين صوتوا بـ (لا) هي 36 في المئة، وبعدد 6 ملايين و61 ألفاً و101 صوت.

بَيدَ أن هناك قراءةً أخرى، تتجاوزُ الظاهرَ من الأوراقِ، تؤكدُ أنّ النتيجةَ تصلحُ للبناءِ عليها، والبلادُ تستعدُّ لانتخاباتٍ برلمانيةٍ، وليس شرطاً الحصولُ فيها على الأغلبيةِ، إنّما كان يمكنُ إبرامُ تحالفاتٍ مع قوى إسلاميةٍ غيرِ الإخوان، إن لم تنجحْ وتحقّق الأغلبيةَ البرلمانيةَ هذه المرّةَ، فقد تتحققُ مستقبلاً، وربما عند إثارةِ قضايا بعينِها داخل البرلمانِ، استغلالاً لما يمكنُ أن يحدثَ من خلافٍ بين الإخوانِ وهذه الفصائلِ، لكنّ القومَ، لم يهتمّوا بالقراءةِ، فقد كان كلّ ما يشغلُهم إسقاط الدستورِ الآنَ، وبأيِ وسيلةٍ، فيقبلون بخيارِ الصندوقِ، ثم ينقلبون عليه بادعاءِ أن هناك تزويراً جرى في النتيجةِ، وهو ما توقّفوا عن ترديدِه بعد هذه المرحلةِ، فلم يصمموا على موقفِهم من حدوثِ التزويرِ!

بالقراءةِ بين نتيجةِ الاستفتاءِ هذه المرةَ، والاستفتاءِ على التعديلاتِ الدستوريةِ في سنةِ 2011، سنكتشفُ أن هناك أكثرَ من مليونِ مصريٍّ، شاركوا في الاستفتاءِ الأوّلِ وتخلّفوا عن الاستفتاءِ الثاني، حيث كانت المشاركةُ في استفتاءِ مارس 2011 هي 18 مليوناً و36 ألفاً و60 مواطناً ممّن لهم حقّ الانتخابِ، في حين أن جملةَ مَن شاركوا في استفتاءِ ديسمبر 2012، هم 17 مليوناً و558 ألفاً و317 مواطناً.

وقد انخفض عددُ الذين صوتوا بـ (نعم) في الاستفتاءِ الأولِ عنه في الاستفتاءِ الثاني بحوالَي أربعة ملايين صوت، وقد تبنّى التيارُ الإسلاميّ (سلفيون وإخوان) التصويتَ الإيجابي لصالح التعديلاتِ الدستوريةِ، فكانت نسبةُ الذين قالوا نعم في الاستفتاءِ الأولِ 77.27 في المئة. ومع عزوفِ أكثرَ من مليونٍ من الذين صوتوا في الاستفتاءِ الأول، عن التصويتِ في الاستفتاءِ الثاني، فقد زادت أعدادُ الذين صوتوا بـ (لا)، ومن 4 ملايين و174 ألفاً و187 صوتاً بنسبة 22.73 في المئة من أعدادِ الأصواتِ الصحيحةِ في استفتاءِ مارس، إلى 6 ملايين و61 ألفاً و101 صوت، بنسبة 36 في المئة في الاستفتاءِ على دستورِ ديسمبر، وبزيادةٍ في المصوِّتين بالرفض تقترب من المليونَي صوت.

وهناك إشارةٌ مهمةٌ لعدد الأصواتِ الباطلةِ أعتقد أنّها خارجَ سياقِ موضوعِنا، ففي استفتاءِ مارس لم تتعدَّ الأصواتُ الباطلةُ 171 ألفَ صوتٍ، في حين أنّها تجاوزت الـ 300 ألفِ صوتٍ في الاستفتاءِ الأخير، وقالت اللجنةُ العليا إنها استبعدت أصواتاً كثيرةً كانت صوّتت بـ “نعم” لارتكابِ أصحابِها مخالفاتٍ في ورقةِ التصويتِ، فراعت اللجنةُ ألا تُستغلَ في إبطال عمليةِ الاستفتاءِ قضائياً، وهو الإجراءُ الذي لم تقدِمْ عليه جبهةُ الإنقاذِ رغم حديثِها عن التزويرِ الذي حدث.

نصيحةُ الأمريكانِ والألمان

هذه الزيادةُ في أعدادِ الذين قالوا (لا) ليس مستبعداً أنها بسببِ اندفاعِ الفلولِ للوقوفِ مع المعارضةِ ضدّ الرئيسِ محمد مرسي، ولم تهتم جبهةُ الإنقاذ بأيِ قراءةٍ لهذه النتائجِ المبشرةِ، فقد كان الهدفُ الأكبرُ من جانبِ البرادعي هو إرباكَ المشهدِ السياسيِ انتقاماً من الرئيسِ وربما للفتِ انتباهِه بالقدرةِ على الإفشالِ، ومن جانبِ حمدين فقد كان متعجلاً الأمرَ، كما ذكرنا سابقاً، وحصولُه على المركزِ الثالثِ في الانتخاباتِ الرئاسيةِ، أفقده اتزانَه، فتعامل مع الرئيسِ على أنه عدوٌّ.

كان الأمريكانُ ينصحون الرئيسَ محمد مرسي بالاستعانةِ باثنَين: عمرو موسى والبرادعي، وقد نصحَه الألمانُ بالاستعانةِ بالبرادعي وعمرو موسى.. ويختلفُ ترتيبُ الأهميةِ من واشنطن إلى دولِ الاتحادِ الأوروبي، لكن سُمعَ الرئيسُ محمد مرسي يعلقُ على اقتراحِ البرادعي بقوله: “بِعِيدْ عن شَنَبُهْ”.

لم يحدد الألمانُ أو الأمريكانُ المواقعَ المقترحةَ لموسى والبرادعي، فقد تركوا الأمرَ له، وكان واضحاً أن الرئيسَ ليس ميّالاً لهذا الاختيارِ، وربما ساعده السيسي على الرفضِ، ورأيُ قيادةِ الجيشِ في البرادعي لا يختلفُ عن رأيِ نظامِ مبارك، وهو أنّه رجلُ الغربِ، والعسكرُ بشكلٍ عام، يقبلون الدعمَ الغربيَ، ويعيشون في كنفِ المساعداتِ الغربيةِ والسلاحِ الغربيِ، لكنّ رأيَهم سلبيٌ في كلِ مَن له علاقةٌ بالقوى الغربيةِ من خارجِ دائرةِ الحكمِ، تماماً كما تتهمُ السلطةُ الحاكمةُ المراكزَ الحقوقيةَ التي تُموَّلُ من الغربِ بالخيانةِ، ولا ينسحبُ الاتهامُ عليها، وهي تتلقى التمويلَ من نفسِ الجهاتِ المانحة.

وربما لم تكن هناك معارضةٌ لعمرو موسى، الذي فكّرَ الإخوانُ في الاستعانةِ به مرّتَين، وعرضوا عليه ذلك فرّحبَ، وبعد الاستفتاءِ على الدستورِ، ورغم أنه كان قد انسحبَ من الجمعيةِ التأسيسيةِ، وصار أحدَ وجهاءِ جبهةِ الإنقاذ، إلا أنّه نُشرَ على لسانِه تصريحٌ أدلى به يوم 25 ديسمبر، يطلبُ فيه من الرئيسِ محمد مرسي بأن يشكلَ الوزارةَ الجديدةَ برئاستِه، وأن تكونَ حكومةَ طوارئ من كلّ القوى السياسية.

الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح (يمين) والأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى

وقال لي أحدُ المقربين من القصرِ الرئاسيِ، في هذا الوقتِ، إنه عُرضَ على الدكتور محمد مرسي أن يجمعَ بين منصبِ الرئيسِ ورئيسِ الحكومة، وهو أمرٌ له سابقةٌ تاريخيةٌ. ويبدو أنّهم حين وجدوا تمسّكه بهشام قنديل، لم يكن أمامَهم خيارٌ إلا أن يكونَ البديلُ له هو الرئيسَ نفسَه، لعلّه يقبلُ هذا العرضَ، وقد استمعَ لذلك، ولم يبدِ اعتراضاً، وكان هذا جزءاً من طبيعتِه الشخصيةِ، فيبدو من صمتِه أنه وافقَ على كلامِ مَن يحدثُه، لكنه في الحقيقةِ لم يكنْ قد كوّنَ رأياً، أو أنّه لا يريدُ للقاءِ أن يفقدَ شكلَه الاحتفاليَ، فيحتفظُ بقرارِه ووجهةِ نظرِه، وهو ما أحدثَ مشكلاتٍ في السابقِ، عندما طالبَه حمدين صباحي، بعد لقائه في القصرِ الرئاسيِ، بحلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، واعتبرَ صباحي السكوتَ علامةَ الرضا. ودائماً ما كان يُفسّرُ ذلك ضده بأنه ينتظرُ قرارَ مكتبِ الإرشادِ باعتبارهِ الحاكمَ الحقيقيَ لقصر الاتحاديةِ، وهذا لم يكنْ صحيحاً.

عندما صرحَ عمرو موسى بالكلامِ عن حكومةِ طوارئٍ، كان هذا مخالفاً لخطابِ جبهة الإنقاذِ، التي تؤكّدُ أنها لا تريدُ إسقاطَ مرسي، ولكنها تريدُ إعادةَ تشكيلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وفي هذه الفترةِ كانت ترفعُ صوتَها بالمطالبةِ بإسقاطِ الدستورِ.

وقال لي المقربُ من الرئاسةِ إن معنى هذا التصريحِ أن المنصبَ عُرضَ للمرةِ الثانيةِ على عمرو موسى وأنه يمهّدُ لوجودهِ في الحكومةِ الجديدةِ: “نائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية”، ضمن ثلاثةٍ آخرينَ من النوابِ لرئيسِ الوزراءِ، الذي هو ذاتُه رئيسُ الجمهوريةِ، لكن التشكيلَ الوزاريَ تم بعد أيامٍ برئاسة هشام قنديل أيضاً، وبعشرةِ وزراءَ جددٍ، ليسوا أفضلَ حالاً من زملائِهم المغادرين مواقعَهم. وفي هذه المرةِ لم يصرح الدكتور محمد البلتاجي، بأنها حكومةٌ لا تعبرُ عن الثورة، كما فعل في المرةِ الأولى، ولأكثرَ من مرةٍ، فقد كانت المعارضةُ تشتدُّ في حملتِها ضد الرئيس.

معضلةُ حمدين

وبالبرادعي وموسى كان يمكنُ تفكيكُ جبهةِ الإنقاذِ، لكن ستظلُّ المشكلةُ مع حمدين صباحي، الذي اعتاد في علاقتِه بالإخوانِ، أن يأخذَ ولا يُعطي، ولم يخلصِ الإخوانُ لأحدٍ من القوى السياسيةِ الأخرى إخلاصَهم لحمدين صباحي.

لقد خاض انتخاباتِ مجلسِ الشعبِ في دائرتِه الانتخابيةِ الحامول والبُرلّس بمحافظةِ كفر الشيخ لأولِ مرةٍ سنةَ 1995، والتي نافسه فيها ابنُ عمته وزوجُ شقيقته في نفس الوقت، المهندسُ محمد إبراهيم عامر، وهو منتمٍ لجماعةِ الإخوانِ المسلمين، فكان طبيعياً أن يَسقطا ويفوزَ المرشحُ التقليديُ للحزبِ الوطني، وفي انتخاباتِ 2000 رعى الإخوانُ اتفاقاً بينه وبين صهره، ينصُّ على أن يترشّح حمدين هذه المرةَ ويساندَه صهرُه، على أن يترشحَ صهرُه في الدورةِ القادمةِ ويناصرَه حمدين.

وقد فاز حمدين صباحي في هذه الانتخاباتِ، لكنه أصرّ أيضاً على الترشّح في انتخابات 2005، إخلالاً بالاتفاق، وعلى إثرِ هذا قرّر المهندسُ محمد عامر خوضَ الانتخاباتِ أيضاً، لكنّ الإخوانَ أرسلوا للدائرة، موفداً منهم هو صلاح عبد المقصود، باعتبارِه زميلاً لحمدين صباحي في عضوية مجلسِ نقابةِ الصحفيين حينذاك، حيثُ أقنعَ عضوَ الجماعة وزوجَ شقيقة حمدين وابنَ عمته، بأن يُخلي له الدائرةَ للمرة الثانية، وقد فعلَ ليفوزَ حمدين بعضويةِ البرلمانِ لدورةٍ جديدةٍ، ولم يترشح صهرُه في انتخابات 2010، فقد ترشّح حمدين أيضاً في انتخاباتٍ كان قرارُ أمينِ التنظيمِ أحمد عز هو إسقاطَ جميعِ المنافسين للحزب الوطنيِ، فسقطَ حمدين صباحي من الجولةِ الأولى.

وبعد الثورةِ وعندما قال الإخوانُ إنهم سيخوضون الانتخاباتِ تحت لافتة “مشاركة لا مغالبة”، وبقائمةٍ تضمُ 44 حزباً، تقلصت إلى 14 حزباً، وتشكلت لجنةٌ لإعدادِ الكشوفِ مثّلَ فيها اليسارَ سعد عبود النائبُ السابقُ عن حزبِ الكرامة، الذي كرّس جهدَه كمندوبٍ عن حزبِه وليس عن اليسارِ عموماً، كان قرارُ الإخوانِ هو أن كل حزبٍ يرشحُ خمسة فقط للقائمة، ثم تم استبعاد حزب الأحرار، واكتفوا بخمسة مرشحين لحزبِ العمل، والأحرار والعمل هما الحزبان اللذان بينهما وبين الإخوان تاريخٌ مشتركٌ، حيث شكل الحزبان والجماعةُ التحالفَ في انتخابات 1987، وخاضوا الانتخاباتِ على قائمة حزب العمل، ورفضَ القائمون على التحالفِ الجديدِ طلبَ الرجلِ الثاني في حزبِ العملِ الحاجِ عبد الحميد بركات بالترشحِ في مسقطِ رأسِه بمحافظة المنيا، فانسحبَ من العمليةِ الانتخابيةِ، وكان الرجلُ هو مسؤولَ التنظيمِ بالحزبِ في انتخاباتِ 1987، وعندما تمّ تذكيرُ الدكتورِ عصام العريان بذلك، قال مُحتدّاً ومُتعالياً: “هذا كان زمان.” في إشارةٍ لا تخطئُ العينُ دلالتَها. وإن كان العريان هو من أعادَ حزبَ العمل للتحالفِ الجديدِ عندما انسحبوا منه لمماطلةِ الإخوانِ في إعلانِ كشوفِ المرشحين وتركِها لآخرِ لحظةٍ قبل إغلاقِ بابِ الترشيحِ، بحسبِ شهادةِ ممثلِ الحزب في التحالفِ الدكتور مجدي قُرقُر.

ومع ذلك كان عددُ المرشحينَ من حزبِ الكرامةِ على قائمةِ التحالفِ الجديد، ليس خمسة مقاعدَ، ولكن خمسةَ عشرَ مرشحاً في مواقعَ متقدمةٍ بالقائمة، وعندما اختلف سعد عبود في اجتماعاتِ التحالفِ التي كانت بالرئاسة الصوريةِ للدكتور وحيد عبد المجيد، والرئاسةِ الفعليةِ للدكتور محمد البلتاجي، انسحبَ من الاجتماعاتِ، وكان حمدين صباحي في الخارجِ، فعاد من مطارِ القاهرةِ إلى مكتبِ الإرشادِ وما أراده تمت الموافقةُ عليه، وقد نجح للكرامة ستة من المرشحين، بينما لم ينجح للعملِ سوى مرشحٍ واحدٍ هو الدكتور مجدي قُرقُر، وكُتبت الإعادةُ لمرشحٍ آخرَ هو سيد منصور كان ترتيبُه الرابعَ بقائمةِ ميت غمر، ولم يُكتبْ له الفوزُ، ويرجعُ فوزُ هذا العدد للكرامةِ، بالمقارنةِ بحزبِ العمل (الشريك في التحالف القديم)؛ لأن عددَ المرشحين عن “الكرامة” أكثرُ، ولأنهم في مواقعَ متقدمةٍ بالقوائمِ، ومن بينهم كمال أبو عيطة الوزيرُ في مرحلةِ ما بعد الانقلابِ، وأمين إسكندر، ومحمد منيب.

المرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي
صفقةُ شفيق- حمدين

لقد كانت علاقةُ حمدين بالإخوانِ، أن يأخذَ دونَ أن يُعطي وكانوا كرماءَ معه، والكرمُ ليس من طباعِهم، فأرادَ أن يستمرّ في مسيرةِ الأخذ.

فإذا لم يكن مطروحاً أن يعتبرَه الإخوانُ مرشحَهم الرئاسيَ، فقد كان مُنتظراً منه أن يسلّمَ نفسَه لقيادة الجماعةِ بعد سقوطِه في الجولةِ الأولى رداً للجميلِ، لكنه أعلنَ الحربَ عليهم من أول لحظةٍ، وطالبَهم بالتنازلِ له لإثباتِ انحيازِهم للثورةِ، وهو موقفٌ غريبٌ، فلم يكن هو رمزاً للثورة أو أحد أيقوناتِها، ولم يكن الدكتور محمد مرسي من خارجِ الصفِ الثوريِ، فقد كان من الذين قادوا الاتجاهَ للمشاركةِ فيها داخلَ الجماعة، ليتمّ القبضُ عليه ضمنَ ستةٍ من أعضاءِ مكتبِ الإرشاد، و500 من أعضاءِ الجماعةِ بالمحافظات هم الذين تزعموا هذا الاتجاهَ، وذلك في ليلة جمعة الغضبِ، كما أن مرسي وإن كان قد تزاملَ مع حمدين صباحي في برلمان 2000- 2005، فالمقارنةُ في الأداءِ وفي الموقفِ المعارضِ في مجلسِ الشعبِ ستظلمُ حمدين كثيراً، الذي لا يستطيع أن يذكرَ موقفاً جاداً له داخل المجلسِ، فلم يتقدم فيه باستجوابٍ لوزيرٍ، أو بطلبِ إحاطةٍ ضد مسؤولٍ.

كان حمدين وأنصارُه ينامون ويستيقظون على نغمةٍ واحدةٍ: “حمدين هَيعِيد”، ولم تكن رغبةً وإنما قرارٌ، فعلى الإخوان أن يسحبوا مرشحَهم ليسمحوا لحمدين بأن ينافس مرشحَ الدولة العميقةِ الفريقَ أحمد شفيق.

ومن الناحيةِ القانونية فإن هذا ضربٌ من الخيالِ، لأن بابَ التنازلات قد أُغلقَ، والتنازلُ سيكونُ سياسيّاً، ولا يسمح لحمدين قانوناً بالإعادةِ، ومع هذا فإن الدكتورَ محمد مرسي إذا تنازلَ فإنه يكون قد مهّد الطريقَ للنجاحِ المريحِ لشفيق، فهل هذا ما كان يريدُه حمدين صباحي؟!

لقد رشَحت أنباءٌ عن أن حمدين لم يكن بعيداً عن الفريقِ شفيق، واعترف الفريقُ نفسُه بأن المخرجَ السينمائيَ خالد يوسف زاره لإبرامِ صفقةٍ لصالح حمدين، يصبحُ بمقتضاها نائباً للرئيس في حالِ فوزِه، مقابل التصويتِ لصالحِه، لكن شفيق اشترطَ إعلانَ هذا، ولم يكن في مقدورِ حمدين صباحي أن يفعل!

وتصادفَ هذا الإعلانُ من جانبِ شفيق مع وجودِ خالد يوسف في الخارجِ، الذي أعلن من “غربته” أنه سيردُّ على كلامِ الفريقِ أحمد شفيق عقب عودتِه، مع أن وسائلَ التواصلِ الاجتماعي سهلت الأمرَ، وكان يمكنُ أن يردَ من هناك، لكنه قال إنه سيفعلُ عندما يعودُ لمصرَ ويعقدُ مؤتمراً صحفياً، وهو المؤتمرُ الذي لم ينعقدْ، حتى الآنَ!

لقد ذكر حمدين صباحي أنّ الرئيس محمد مرسي عرض عليه منصبَ رئيسِ الوزراءِ (بعد سجن الرئيس)، فأراد بذلك أن يزكّي نفسَه ولم ينتبهْ إلى أنّه يقدمُ خدمةً لخصمِه الذي اتهمته المعارضةُ بأنه لم يشأ أن يشركَ أحداً معه في الحكمِ، وأنه أخْونَ الدولةَ.

ومهما يكن، فما ذكره حمدين صباحي غيرُ صحيحٍ جملةً وتفصيلاً، فلم يُعرض عليه شيءٌ من هذا من قبلِ الرئيس، وظنّي أنه يقبلُ منصبَ نائبِ الرئيسِ للفريقِ أحمد شفيق، إلا أنّه لن يقبلَ أن يكون نائباً للرئيس مرسي، فوجودُ شفيق رئيساً يعدّ أمراً مقبولاً ويتفقُ مع سياقِ نصفِ قرنٍ من الحكم العسكريِ، لكنّ فوزَ الدكتور مرسي فتحَ شهيةَ كثيرين للمنصبِ، وكان كل ما يريدُه حمدين انتخاباتٍ سريعةً، تمكنُه من الفوزِ بمنصبِ رئيسِ الجمهوريةِ، وليس عنده استعدادٌ للانتظارِ حتى انتهاءِ ولايةِ الرئيس.

ومن هنا، فإذا كانَ من السهلِ احتواءُ عمرو موسى ومحمد البرادعي (لأن تحقيق طموحهما في الاستطاعة)، فقد كان حمدين هو المعضلةَ، لكنه بدونِهما لن يكون أكثرَ من صفرٍ على الشمالِ، فوجودُ البرادعي بالذات، هو ما أعطى لجبهةِ الإنقاذِ قيمةً دوليةً. وحمدين كان بأقلّ قصفٍ إعلاميٍ، لا يملكُه الإخوانُ سينتهي، فقد كان يكفي استدعاءُ ملفِ النفطِ مقابل الغذاءِ في الحربِ على العراق، وهو الملفُ الذي لم يتم إطلاعُ الرأيِ العام عليه، لكنّ الطرفَ الآخرَ لم يبتعد عن هذا لتمسكِه بالأخلاقِ الحميدةِ، ولكن لحساباتِه الخاطئةِ، وقلةِ حيلتِه، وهوانِه على الناس، وظنِّه أن كلَّ هذا ليس أكثرَ من “زوبعة في فنجان”.

ولأنه لم يتم تفكيكُ جبهةِ الإنقاذِ، وكان هذا متاحاً وميسراً، ولأنّ المصائبَ يجمعن المصابينَ، ولأن معضلة حمدين تورّمت، فقد استمرّت الأزمةُ، بعد إعلانِ نتيجةِ الاستفتاءِ، وإن كانت هناك مشاكلُ أخرى تفجّرت، هي مشكلةُ القضاءِ بعد حصارِ أنصارِ الشيخ حازم أبو إسماعيل المحكمةَ الدستوريةَ، ولم يكن هذا حصارَه الوحيدَ، فقد حاصرَ بعد ذلك مباشرةً مدينةَ الإنتاجِ الإعلاميِ، وقد أفاد الحصارُ في الحالتين الحكمَ بدرجةٍ كبيرة.

لقد كان معروضاً على المحكمةِ الدستوريةِ حلُّ الجمعية التأسيسية، وكانت المعارضةُ تنتظرُ هذه الخطوةَ، وتعمل على تعويقِ الجمعيةِ في أداءِ مَهمتها، لتمكينِ المحكمة من إصدارِ الحكمِ، وهذا جزءٌ من ثورتِها على الإعلانِ الدستوري الذي حصّنها من الحلِ بحكمٍ قضائيٍّ، الأمرُ الذي دفعَ بجهاتٍ عدةٍ من بينها نادي القضاةِ إلى رفضِ هذا الإعلانِ، وهذا خارجُ الاختصاصِ الوظيفيِ للقاضي.

لقد حلت المحكمةُ الدستوريةُ مجلسَ الشعبِ، وهو الذي شكّلَ الجمعيةَ التأسيسيةَ، لكنّ هناك حكماً قديماً للمحكمة  بعدم دستوريةِ قوانينِ الانتخاباتِ- ونتج عن ذلك حلُّ المجلس ثلاثَ مراتٍ- أكّد على أنّ كلَّ ما اتخذه البرلمانُ من قراراتٍ وما أصدره من قوانينَ ونحو ذلك قبل حكمِ المحكمةِ، صحيحٌ، ولا يمتدُّ الحكمُ إلى ما نتج من آثارٍ، لكن لا شيء مضموناً في زمنِ الفتنة، وقد اختلطت الأوراقُ والتفت الساقُ بالساقِ، فلم يكن يحدثُ الفرزُ بين القاضي والناشطِ السياسي، أو بين ما هو ثوريٍ وما هو قانونيٍ، أو بينَ البرادعي باعتبارِه مُنتمياً لثورةِ يناير، وبين سامح عاشور بوصفِه منتمياً بالروحِ والممارسةِ للثورةِ المضادة.

والأمرُ هنا ليس محكوماً بالقانون، فكما سبق أن أوضحنا فليس من سلطةِ المحكمةِ الدستوريةِ إلا أن تظهر مدى دستوريةِ النصوص المحالةِ لها من محكمة الموضوعِ، على أن تتركَ الأمرَ لمحكمة الموضوعِ هي التي تفصلُ فيه، وحلُّ المجلسِ هو قرارُ محكمةِ القضاءِ الإداريِ، وليس من اختصاصِ المحكمةِ الدستوريةِ، ومع ذلك أصدرت حكمَها بحلِّ المجلس.

وإزاءَ هذا التخوفِ من صدورِ الحكمِ، تمَّ الإسراعُ من الانتهاءِ من مُسوَّدَةِ الدستورِ، وفي يومِ نظرِ الدعوى كان أنصارُ الشيخ حازم يُحاصرون المحكمةَ الدستوريةَ، لينتقلوا إلى مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي بعد ذلك فحاصروها لعدةِ أيامٍ، في فترةِ الانتهاءِ من إجراءاتِ تحديدِ موعد الاستفتاء، وقد أضرّ هذا بموقفِ حكمِ الرئيس مرسي، وأفاده في نفسِ الوقتِ.

وكما مثّلَ حصارُ مبنى المحكمةِ الدستوريةِ العليا عمليةَ ردعٍ، حالت دون الفصلِ في دعوى حلِّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، فقد مثّلَ حصارُ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي ردعاً للإعلاميين، الذين كانوا يدقّونَ طبولَ الحربِ ضد الرئيسِ، في فترةٍ حرجةٍ، ومصرُ تستعدُّ للاستفتاءِ على الدستور.

كان الإعلامُ يستبيحُ الرئاسةَ، ويدعو للفوضى، وسمعنا إعلاميين يعلنون أنّهم لا يخافون، وأنهم يقفون على خطِّ النارِ في مواجهةِ الديكتاتورِ مرسي، وبشكلٍ يوحي كما لو كان هذا هو إعلامَ الثورةِ، وليس إعلامَ الثورةِ المضادةِ، ومُعظم هؤلاء الإعلاميين كانوا يستغلون ديمقراطيةَ الرئيسِ، وإدراكَه أنه جاء بعدَ ثورةٍ، خرجت على الاستبدادِ، ولا يمكن لعجلةِ الزمنِ أن تعودَ للوراء، ولا يمكنُ قَبولُ أن مَن ينتمون – في معظمِهم- لزمنِ مبارك أن يكونوا بهذه الشجاعةِ، وهم من تنكّروا لمبارك بعد الثورةِ، وجاؤوا يخطبونَ وُدَّها مبكراً، وقد طردتهم الجماهيرُ من ميدانِ التحريرِ، كما حدثَ مع عمرو أديب ولميس الحديدي، لكنّهم الآن تنكّروا للمرحلةِ السابقةِ، ويتحدثون باسمِ الثورةِ، وقد تمّ إطلاقُ لقبِ “المتحولون” عليهم.

عندما حاصرَ أنصارُ الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل مدينةَ الإنتاجِ الإعلاميِ، أعلن “عمرو أديب” أن دمَه في رقبةِ الشيخ حازم، وتوقف عددٌ منهم عن الذهاب للإستوديوهاتِ، وبعد توقفٍ عاد إبراهيم عيسى لتقديمِ برنامجِه في إستوديو خارجَ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي، وذهب يوسف الحسيني إلى المعتصمين مُتقرباً ومتودّداً.

لقد تمَّ وقفُ أبواقِ الثورةِ المضادة في هذه الفترةِ، التي سبقت الاستفتاءَ على الدستورِ. وقبل الاستفتاءِ، كان قرارُ “حازمون” رفعَ الحصارِ عن مدينة الإنتاجِ الإعلامي ليتسنّى لهم المشاركةُ فيه، وقد عادوا بعد ذلكَ إلى حصارِ المحكمةِ الدستوريةِ من جديدٍ، بعد تفجّرِ أزمةٍ جديدةٍ بخصوصِ تصريحاتٍ منسوبةٍ للدكتور عصام الحداد مساعدِ رئيسِ الجمهورية للعلاقاتِ الخارجية، بأن المحكمةَ الدستوريةَ كانت في طريقِها لإصدارِ قرارٍ بحلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وأنها من القوى المعاديةِ للثورةِ. وقد توجه ببيانِه للإعلامِ الغربي، ونشرَه على صفحتِه وصفحةِ المتحدثِ الرسمي باسم الرئاسةِ على “الفيس بوك”، مُشيراً إلى أنّ المحكمةَ الدستوريةَ حلّت مجلسَ الشعبِ بطريقةٍ مريبةٍ، وستحلُّ الجمعيةَ التأسيسيةَ ما دفع الرئيسَ إلى إصدارِ إعلانٍ دستوريٍ في 22 نوفمبر الماضي لتحصينِ هذه القراراتِ من تدخلِ المحكمةِ.

ووصف المتحدثُ الرسميُ باسمِ المحكمة الدستوريةِ، ونائبُ رئيسِها المستشار ماهر سامي بيانَ الرئاسة بـ “الافتراءات والمغالطات”. وتساءل: لماذا لم يوجه مساعدُ الرئيس بلاغَه إلى أجهزةِ التحقيقِ المختصةِ بدلاً من مخاطبةِ الإعلامِ الأجنبي؛ بعد أن كشفَ جريمةَ تآمر المحكمةِ لحلِ “التأسيسية”!

ولم يحدد نائبُ رئيسِ المحكمة الدستورية أجهزةَ التحقيقِ المختصةَ، التي يمكنُ للرئاسةِ أن تلجأ إليها في هذه الحالةِ، ومعروفٌ أنه لا معقبَ لحكمِ المحكمةِ، ولم يرتّب القانونُ طريقاً للطعنِ في أحكامِها، فحكمُها نهائيٌّ وباتٌّ!

خدمةٌ للرئاسة

وكان الشيخ حازم، قد تجاوزَ أزمةَ منعِه من الترشحِ على خلفيةِ حمل والدتِه الجنسيةَ الأمريكيةَ، وانطلق وأنصارُه في مَهمة حمايةِ الرئيس، بدون اتفاقٍ على ذلك، فكان حصارُ الدستوريةِ، ومدينةِ الإنتاج الإعلامي خدمةً جليلةً للرئاسة، وإن مثّلت إساءةً لها باعتبار أن حكمَ الإخوان سمح بحصارِ الإعلامِ، وحصارِ القضاةِ، وإذ تقبّلت الجماعةُ منه ذلك بدون إعلانٍ، ففي مرحلةٍ تاليةٍ، ضاقت ذرعاً بتصريحاتِه ضد العسكر، وحديثِه المتواترِ عن أن هناك انقلاباً عسكرياً سيقعُ، وأنه لا يأمنُ مكرَ المجلسِ العسكري، وسخر منه الدكتور عصام العريان، وقال إن الانقلاباتِ العسكريةَ انتهت من العالمِ كلِّه، ولم يعد لها وجودٌ إلى في ذهنِ الشيخ حازم أبو إسماعيل، وفي شهر مايو 2013، أي قبل الانقلابِ العسكري، تلقى توبيخاً من قياداتِ جماعة الإخوان، اندفع على أثرِه إلى إعلانِ أنه “خارج الموضوع”، فقد بدا يائساً بشكلٍ كبيرٍ، فقد أنكر عليه قومُه تحذيرَه، وبدا بعد ذلك وكأنه فوض أمرَه إلى الله ولم يعد يعنيه شيءٌ في المشهدِ السياسيِ.

لقد أمر النائبُ العام المستشارُ طلعت عبد الله بإعادة التحقيقِ في جميعِ البلاغاتِ التي تم حفظُها ضد حازم أبو إسماعيل، ومن بينها حصارُ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي وإهانةُ وزيرِ الدفاع، وكلف المستشارَ هشام القرموطي، المحاميَ العامَ الأولَ لنيابةِ أمنِ الدولةِ بفتح “تحقيقات موسعة” وعاجلةٍ في الاعتداءِ على مقرِّ مباحث أمن الدولة، عقب دعوة أبو إسماعيل لتطهيرِ وزارةِ الداخليةِ.

وتلقى النائبُ العامُ بلاغاتٍ جديدةً ضد الشيخ حازم أسندها للمكتبِ برئاسةِ المستشارِ حسن ياسين لفحصِها.

إن النائبَ العامَ قد قرّر محاسبةَ الشيخ حازم بأثرٍ رجعيٍ، ربما مجاملةً لوزيرِ الدفاعِ الفريق أول عبد الفتاح السيسي، إذ وصفه الشيخ حازم بأنه “ممثلٌ عاطفيٌّ”، ليبدأ الحسابُ من حصارِه مقرَّ مدينةِ الإنتاجِ الإعلاميِ، خدمةً للرئيس محمد مرسي. كما أنه يريدُ أن يحمّله اقتحامَ عددٍ من مقار أمن الدولةِ، التي تبادل نشطاء سياسيون الاتهامَ بعد ذلك مع العسكر حول مَن قام بعمليةِ الاقتحامِ، ولم يكن يثبت أي دورٍ للشيخ حازم في هذا، وربما لو استمرّ حكمُ الرئيس محمد مرسي ومعه نائبُه العام طلعت عبد الله، لكان السِّجنُ أيضاً هو مصيرَ الشيخ حازم، على جملةِ الاتهاماتِ الموجهةِ إليه.

وطالبَ أمير بسام القياديُ بجماعةِ الإخوان “أبو إسماعيل” بالكفّ عن اتهاماتِه المرسلةِ للجيش وتوخّي الحذرِ أثناء إدلائه بتصريحاتٍ. وقال الدكتور أحمد بديع القيادي أيضاً بالجماعةِ يجبُ مراجعةُ تصريحاتِنا قبل الإدلاءِ بها، ولا ننسى أن الجيشَ حمى الثورة!

الشيح حازم صلاح أبو إسماعيل
حصار النائب العام

اللافت أن الذين غضبوا لحصارِ مبنى المحكمة الدستوريةِ، لم ينتبهوا لصورةٍ أخرى أكثر إثارة، حدثت في نفسِ الشهرِ وهو (ديسمبر 2012)، وهي حصارُ مكتبِ النائب العام المستشار طلعت عبد الله يومَ 17 ديسمبر، وذلك في اليوم التالي لعودةِ حصارِ “حازمون” للمحكمة الدستورية.

وقد حاصرَ مكتبَ النائب العام المئاتُ من وكلاء النيابة، على خلفيةِ اتهامِه بالطلب من المستشار مصطفى خاطر المحامي العام بمنطقة شرق القاهرة، التي يتبعُها القصرُ الرئاسي حبسَ الذين حاصروا الاتحاديةَ، وتدخله في عملِه وسيرِ التحقيقاتِ لصالح الجماعة التي يتبعُها، ولم يكن أمامَ النائبِ العام من بديلٍ أمام هذا الحصار- الذي وقعت فيه اشتباكات بين وكلاء النيابة والشرطة المكلفة بحراسة المبنى- إلا إعلان استقالتِه!

وقد خرج عليهم المستشارُ عادل السعيد النائبُ العام المساعد ليتلوا عليهم بيانَ النائب العام بالاستقالة. وقال المستشار أحمد الزند، رئيسُ نادي القضاة: “استقالة النائب العام انتصار للشرعية وبداية انفراج للأزمة”.

وبعد ثلاثةِ أيام من هذا الحدثِ تراجعَ النائبُ العام عن استقالتِه، ليبدأَ عمليةَ تطهيرِ مكتبه، فأنهى انتدابَ عددٍ من المستشارين، من بينهم مساعدُه المستشار عادل السعيد، عنوانُ الدولة العميقةِ بمكتب النائب العام، والذي عاصر في نفس المكان أكثرَ من نائب عام، ومن أول رجائي العربي، إلى ماهر عبد الواحد، إلى عبد المجيد محمود، حتى أطاح به طلعت عبد الله.

النائب العام الأسبق طلعت عبدالله

و”السعيد” يستمدُّ قيمتَه في هذا الموقع، من قدرته على مواصلةِ العملِ ساعاتٍ طويلةً كل يوم، وإلمامِه بتفاصيلِ الأمورِ، وعندما تم تعيينُ عبد المجيد محمود نائباً عاماً أسرَّ لبعض الصحفيين أن أول قرارٍ سيتخذُه هو التخلصُ من هذا “السعيد”، ربما لأن الأمورَ لم تكن بينهما على ما يرام، عندما كان “عادل السعيد” هو همزةَ الوصلِ بين النائبِ العامِ ومرؤوسِه رئيسِ نيابة أمن الدولة العليا عبد المجيد محمود.

لكنه مع هذا استمرّ مساعداً له، ومديراً لشؤون مكتبه، فيبدو أنه استطاع سريعاً أن يؤكدَ لعبد المجيد محمود، أنه ليس لعاقلٍ أن يفرطَ فيه، ثم إنه كان يجيدُ ضبطَ الأمور مع القياداتِ السياسيةِ في البلاد، ومنصبُ النائب العام ليس موقعاً قضائياً صرفاً، فهو منصبٌ له ارتباطاتٌ سياسيةٌ مفهومة.

وعندما تم تعيينُ طلعت عبد الله نائباً عاماً، كانت كلُ التوقّعات تشيرُ إلى أن السعيد سيبقى في موقعِه، لقدرتِه على التعاملِ مع الجميعِ بذاتِ الدرجةِ من الإخلاصِ، وقد كان يمكن لهذا الأمرِ أن يستمرَّ في أجواءٍ طبيعيةٍ، فالرجلُ عندما وجدَ الأمور ليست مستقرةً، تقرب من دولتِه، وناصر وكلاءَ النيابةِ في انتفاضتِهم ضد النائب العام، ووصل هذا كلُّه للمستشار طلعت عبد الله، الذي طلب من وزير العدل إلغاءَ انتدابِه، لكنه لم يقترب من المستشار مصطفى خاطر، الذي قامَ في وقتٍ لاحق بإخلاءِ سبيلِ المتهمين بتشكيل تنظيم “البلاك بلوك”، وقد أثبتَ بحصار مكتب النائب العام قدرتَه على الحشد، وعلى إبطالِ أي قرارٍ من شأنه أن يقتربَ منه بالنقلِ أو العقاب!

لقد كانت أزمةُ النائبِ العام واحدةً من الأزمات التي شهدها هذا الشهرُ (شهر ديسمبر 2012)، والذي كان شهرَ أزمةٍ، وكان القضاءُ حاضراً فيها، سواء بمؤتمراتِ نادي القضاةِ ضد الرئيس، أو بقرارِ مقاطعةِ الإشرافِ على الاستفتاءِ على الدستور، (قال الزند إن 90 في المئة رفضوا الإشرافَ، وقالت مصادرُ أخرى إن 50 في المئة أبدوا رغبتَهم في القيام بواجبهم)، وإذ لم يرفض قضاةُ مجلسِ الدولة ذلك في الجولةِ الأولى، فقد تحدث ناديهم عن ضرورةِ المقاطعةِ في الجولةِ الثانيةِ، ثم تكرست الأزمةُ بحصارِ المحكمةِ الدستوريةِ لمرّتينِ، وجاء بيان عصام الحداد ليزيدَ الأزمةَ اشتعالاً، لكن جاء للمحكمة الدستورية ما يشغلُها.

التخلصُ من تهاني الجبالي

خلالَ هذه الفترةِ أثبت الرئيسُ قدرتَه على القفزِ للأمام، فلا يترك للقوى المعاديةِ شلَّ حركتِه، والإيقاعِ به وهو في موقعِ الثباتِ، فقد كان معارضوه يطالبون بحلِّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وينتظرون حلَّها بحكمٍ قضائي، فتم الانتهاءُ من مشروعِ الدستورِ، وأصدرَ الإعلان الدستوري، فلما ثاروا عليه، قام بإلغائِه، مع تثبيتِ ما أنتجه من آثارٍ، وطلبوا بعدمِ تحصين التأسيسيةِ، فلم يكن لمطلبِهم معنى بتحديد موعد الاستفتاءِ يومَي 15 و22 ديسمبر، فطالبوا بوقف الاستفتاءِ، فلم يهتم بذلك، فدعوا جماهيرَهم للتصويت بـ لا، ففازت نعم، وتحرشت به المحكمةُ الدستوريةُ فشغلها بنفسِها بنصّ المادة 233 من الدستورِ الجديدِ، وفي خُطةٍ استهدفت الإطاحةَ بقاضيةٍ خرجت على مقتضى الواجب الوظيفي وتحولت إلى ناشطةٍ سياسيةٍ، تستغلُ ثقلَها الوظيفي، لتعارضَ الرئيسَ، دون أي ردعٍ من جهة العملِ، باعتبارها قاضيةً يستوجبُ عليها القانونُ أن تكون بعيدةً عن ممارسةِ العملِ السياسيِ حفاظاً على الاستقلال المفترضِ فيمَن يشغلُ وظيفةَ القاضي.

لقد انخرطت تهاني الجبالي القاضيةُ بالمحكمةِ الدستورية العليا، في النشاطِ السياسي بعد الثورةِ، وانضمت إلى كيانٍ سياسيٍ أسّسه الناشطُ ممدوح حمزة، لكن المحكمة في ظل هذه الأجواءِ الثوريةِ أصدرت بياناً تنبّه على أعضائها بما يفرضُه القانونُ وتقاليدُ القضاء على من يعملُ في هذه المهنةِ بضرورة البعدِ عن السياسة ممارسةً وتنظيراً، وكان معلوماً لكل متابعٍ أن البيانَ يستهدفُها، فتوقفت عن ذلك لبعضِ الوقتِ، قبل أن يستدعيها المجلسُ العسكريُ لتحريضها ضد أي رأيٍ من قبل القوى السياسيةِ أو الثوريةِ التي تشاركُ في اجتماعاتِ المجلسِ، وكان معلوماً لمن يحضرون أنها تتحدث بإشارةٍ يصدرها لها الفريقُ سامي عنان، رئيسُ أركان الجيش، بطرفِ عَينِه، حتى أصبح الأمرُ يلاحظُه الجميعُ، ولم تذكّر المحكمةُ في هذه الفترةِ بالتقاليدِ القضائية.

واستمرت المستشارةُ تهاني الجبالي في هذا الاتجاهِ، تعارضُ الرئيسَ المنتخبَ، وتشتغلُ بالسياسة، وبدت رئاسةُ المحكمة موافقةً على ذلك، أو مضطرةً لغضِ الطرفِ، وقد صار هناك من يُستدعى لحضور اجتماعاتٍ سياسيةٍ من قبل المجلسِ العسكريِ!

والجبالي هي أول قاضيةٍ في مصرَ، ولأن نظامَ مبارك وبتحريضٍ من قبل السيدة سوزان مبارك كان يستهدفُ تعيينَ المرأة في وظيفة القاضي، لتخاطبَ “الهانم” بذلك العالمَ الخارجيَ، والمنظماتِ المانحةَ للمساعداتِ لمنظمتها النسوية “المركز القومي للمرأة”، وتقديم نفسها على أنها  راعيةٌ لحقوق المرأة في مصرَ، ونظراً للنظرةِ المحافظةِ في السلكِ القضائي، فكانت المحكمةُ الدستورية العليا، هي خيارَها التكتيكيَ للقيام بهذه المَهمة، لاسيما مع وجودِ رئيسِها الجديدِ المستشارِ فتحي نجيب، الذي جاء لموقعِه من خارجِ المحكمةِ وبتزكيةٍ من حرمِ الرئيس، التي كانت تعرفُه عندما كان يشغلُ وظيفةَ مساعدِ وزير العدلِ لشؤونِ التشريع، وهو الذي شارك في صياغةِ التعديلاتِ التي أُدخلت على قانونِ الأحوالِ الشخصية، وإقرار الخُلع!

لقد اختار نجيبُ تهانيَ الجبالي كأول قاضيةٍ، وبدونِ استيفاءِ إجراءاتِ التعيينِ في هذا الموقعِ، فلم يتم اختيارُها عن طريقِ مسابقة، ولم تكن قانونيةً مرموقةً، لها أبحاثٌ أو دراساتٌ في مجال القانونِ وفروعِه المختلفةِ، فقد عرَفَها المحامون من خلال انتخابِها عضواً بمجلسِ النقابةِ ممثلةً عن القطاعِ العام، إذ كانت محاميةً لجامعةِ طنطا، ولم يكن قانونُ المحاماةِ يقبل محامِي القطاعِ العام أعضاءً في النقابةِ، لكنّ نقيبَ المحامين أحمد الخواجة في اتجاهه للبقاءِ طويلاً في موقعِ النقيب، عدّل القانونَ، بما يسمحُ بضم محامِي القطاعِ العام للنقابة وهم موظفون في الأصلِ، واستحدثَ لهم موقعاً في المجلسِ، كان من نصيبِ تهاني الجبالي لدورةٍ وربما لأكثرَ، تماماً كما استحدث مقعدَين للشباب، كانا من نصيبِ الإخواني مختار نوح، والناصري سامح عاشور، وهما من  تكفلَ بهما “الخواجة” برعايتِه وصنعَهما على عينِه، وكان الثلاثي على قائمتِه الانتخابيةِ ما مكّنهم من النجاح.

ومن حسنِ حظ تهاني الجبالي، أن من تم اختيارُه رئيساً للمحكمةِ الدستوريةِ هو المستشارُ نجيب الذي يعرفُها وقد كُلف من قبل “الهانم” بالبدءِ في تعيينِ قاضياتٍ، فاختارها، في بلدٍ توجدُ فيه أساتذةٌ من النساءِ بكليات الحقوق في عمومِ الجامعاتِ المصرية.

المستشارةُ تهاني الجبالي

وكان اختياراً فقط من أجل الشكلِ، فلم تكتب حكماً، ولم تشارك في كتابةِ حكم، ولم تُفتِ في مسألةٍ دستوريةٍ، وانصبَّ كل نشاطِها على المقابلاتِ التلفزيونيةِ والصحفيةِ، باعتبارها أولَ قاضيةٍ في مصرَ، وجاءت الثورةُ لتصبحَ ناشطةً سياسيةً، ونجح مرسي لتبدو كما لو كانت متحدثةً باسمِ حزبٍ من أحزابِ المعارضةِ، وليست عضواً في هيئةٍ قضائيةٍ لها وزنُها واعتبارُها.

وقرّر القومُ في السلطةِ اصطيادَها، فكانت المادة (233) من الدستور التي نصّت على: “تؤلفُ أول هيئة للمحكمة الدستورية العليا عند العمل بهذا الدستور، من رئيسها الحالي، وأقدم عشرة من أعضائها ويعود الأعضاء الباقون إلى أماكن عملهم التي كانوا يشغلونها قبلَ تعيينِهم بالمحكمة”.

وإذ نُشر الدستورُ الجديدُ في الجريدةِ الرسمية يوم 25 ديسمبر، فقد عقدت الجمعيةُ العموميةُ بالمحكمةِ الدستورية جمعيتَها العموميةَ في اليوم التالي 26 ديسمبر، بحضورِ رئيسِها والقضاةِ العشرة فقط، وتغيّب المستهدفون بالإبعادِ، بحسبِ الأقدميةِ وهم ستة من المستشارين، ثلاثة عادوا لهيئة المفوضين بالمحكمة، وعاد أحد القضاة لموقعِه في محكمةِ النقض، والقاضِي الخامس عاد لموقعِه في محكمةِ الاستئناف. أما تهاني الجبالي فعادت إلى الشارعِ لتمارسَ عملَها كناشطةٍ سياسيةٍ.

وقد أقامت تهاني الجبالي دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا، تطلب بإلغاء قرار عزلها؛ والقضاء بانعدام الشرعية الدستورية لـ “الوثيقة المسماة بدستور جمهورية مصر العربية”، وعدم الاعتداد بالأثار المترتبة عليها وعدم دستورية نفاذها، واحتياطيا بعدم دستورية الإجراءات والقرارات التنفيذية للتفسير الظاهر للنص الانتقالي رقم 233 من الوثيقة المستفتى عليها والأثار المترتبة عليها من عزل الطالبة من وظيفتها كقاضية ونائب رئيس المحكمة الدستورية العليا وستة آخرين من نواب رئيس المحكمة!

ولم توافقها المحكمة على ذلك، وقضت في حكمها الصادر بتاريخ 5 مايو 2013م، برفض الدعوى!

وهو إجراء يؤكد عدم أهليتها للموقع الذي كانت تشغله، فكيف لقاضية بالمحكمة الدستورية، أن تطلب من المحكمة بطلان الدستور أو نص دستوري، وهو خارج اختصاص المحكمة؟ وكيف لها أن تلجأ إلى المحكمة بالطريق المباشر، ولو كان بالتحايل بتقديم الطلب لدائرة الأعضاء، ولم تعد عضوة، وطلبها خارج صلاحيات هذه الدائرة، ولا تقبل المحكمة الدستورية الدعاوى من الأفراد بالطريق المباشر؟

واللافتُ أن المعارضةَ في ذِروة هجومِها على مُسوَّدةِ الدستورِ، لم تشغلْها هذه المادةُ، التي استهدفت إخراجَ تهاني الجبالي من العملِ القضائي، وربما كانت هناك رغبةٌ من قضاةِ المحكمة في التخلصِ منها، لأن تعيينَها لم يكن برغبةٍ منهم، ولأنها اندفعت في طريقِ السياسةِ بشكلٍ أثّر على مكانتِها كقاضية.

وكان هذا درساً لقدرةِ النظامِ على الفعل، لكنه فقد قيمةَ ما فعلَ لعدم الإلحاحِ عليه والتذكير به في وسائلِ الإعلامِ، تماماً كما فقد قرارُ الإطاحةِ بوزير الدفاعِ ورئيسِ الأركانِ مفعولَه لنفس السببِ وقد بدأ الإلحاحُ على أن عزلَ طنطاوي وعنان، كان باتفاقٍ بينهما وبين الرئيسِ!

وفي هذه الأجواءِ أعلن اللواءُ أحمد زكي عابدين في يوم 3 يناير، وبدون مبررٍ منطقيٍ، أن المؤسسةَ العسكريةَ لا تعرفُ التآمرَ، وأن تعيين السيسي وزيراً للدفاع تمَّ بموافقة طنطاوي!

كان التعديلُ الوزاريُ قد صدر، وبقي زكي عابدين، رغم إعلانِه الانحيازَ لنظامِ مبارك، في اليومِ الأول للثورةِ، عندما كان محافظاً لكفر الشيخ.

ما لزوم هذا التصريحِ الآن؟!

لقد أثبتت الأيامُ أنها كانت حملةً موجهةً..

ومرةً أخرى بدا الرئيسُ وحكمُه في حالة استسلامٍ كاملٍ لهذه الدعايةِ، مع أنها غيرُ صحيحة.

كانوا ينزعون عنه دليلَ قوتِه، وظن في الصمتِ تواضعاً، مع أن ثقافتَه الدينيةَ فيها أن التكبُّرَ على المتكبرِ صدقةٌ.

المصدر : الجزيرة مباشر