عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة السابعة]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي

كانَ التحدِّي الأكبرُ الذِي واجهَ الدّكتورَ مُحمّد مُرْسي فِي أيَّامِهِ الأُولَى بالقصرِ الرّئاسيِّ، هُوَ تشكيلَ الحكومةِ.

تقرير: سليم عزوز

فقدْ وقفَ المِصريّونَ علَى أطرافِ أصابِعِهِم فِي انْتظارِ أوّلِ حكومةٍ لأوّلِ رئيسٍ مُنتخَبٍ، بعدَ ثورةٍ عظيمةٍ. لكنْ بعدَ مخاضٍ عسيرٍ وشاقٍّ، استمرَّ أكثرَ مِنْ ثلاثةِ أسابيعَ، تمخّضَ الجبلُ فولدَ فأراً ميّتاً، وكانَ الشّعورُ الجامعُ هُو “خيبةَ الأملِ”!

رشّحَ كثيرونَ شخصيةً مثلَ الدكتورِ مُحمّد البرادعي ليكونَ رئيساً للوزراءِ، وردّدَ الإخوانُ أنَّ المنصبَ عُرضَ عليهِ، وأنَّه طلبَ صلاحياتٍ واسعةً، تنتقصُ منْ صلاحياتِ رئيسِ الجمهوريّةِ، وعندَما جاءَ الرئيسُ إلَى جامعةِ القاهرةِ، كانَ الحضورُ يمثِّلُ الأطيافَ السياسيةَ، فكلُّ الشخصياتِ التِي بدأتِ النضالَ ضدَّ مُبارك منْ كلِّ القوَى السياسيةِ كانتْ هُناكَ، كانَ عبدُ الجليل مُصطفى، وجورج إسحاق، وكانَ شبابُ الثّورةِ، وإذْ لمْ أجدْ موضعَ قدمٍ فِي القاعةِ، فقدْ صعدتُ للجلوسِ فِي الشُّرفةِ، وعندَما دخلَ أعضاءُ المجلسِ العسكريِّ برئاسةِ المُشيرِ حُسين طَنطاوِي، انطلقَ مِنْ جانبِي هُتافٌ: “يسقطْ.. يسقطْ حُكمْ العسكرْ”!

عبد الجليل مصطفى (يمين) وجورج إسحق (يسار)

وتدخّلَ الدكتورُ مُحمّد البلْتاجي بِمَا لهُ مِنْ ثقلٍ فِي معركةِ النّضالِ الوطنيِّ، طالباً مِنَ الشّبابِ أنْ يتوقّفُوا، فهذهِ أجواءٌ احتفاليةٌ، لَا يجُوزُ إفسادُها بالهُتافِ ضدَّ القومِ. وبمَا يملكُهُ مِنْ رصيدٍ لديهِم فقدِ اسْتجابُوا لهُ، لكنَّ الدكتورَ البلْتاجي خرجَ مِنَ الْمعادلةِ، فهُو ثورةٌ، ومِنْ أخرجوهُ كانُوا فِي عَجَلَةٍ منْ أمرِهم ليكونُوا رجالَ دولةٍ، كانُوا يعيشونَ فِي وهْمِ أنَّهم فتحُوا مكّةَ، ولمْ تكُنْ مكّةُ قدْ فُتحتْ، ثمَّ إنَّهُ يحملُ منَ الحضورِ الشخصيِّ، مَا يجعلُ التنظيمَ بحسبِ المُواصفاتِ المتعارفِ عليهَا لـ “الأخِ” لَا تنطبقُ عليهِ، وهُو الحضورُ الذِي عرقلَ عمليةَ الترقِّي التنظيميِّ للدكتورِ عصام العريان، فلمْ يجدُوهُ مُؤهلاً لرئاسةِ البرلمانِ، ليكونَ مِنْ نصيبِ الدّكتورِ سعْد الكَتاتْني، ثمَّ يذهبُ لينافسَ علَى رئاسةِ حزبِ الجماعةِ “الحُريّة والعدالة” فيكونُ التوجيهُ هُو فوزَ الكتاتْني أيضاً، والحضورُ السياسيُّ للكتاتْني، لمْ يبدأْ سوَى فِي الفترةِ مِنْ 2005 إلَى 2010، بعضويّتِهِ للبرلمانِ ورئاستِهِ للهيئةِ البرلمانيّةِ للجماعةِ، فِي حينِ أنَّ العريان بدأَ حضورُهُ فِي الجامعةِ، قبلَ انضمامِهِ للإخوانِ، ثمَّ تأكدتْ نجوميتُهُ بأدائِه فِي برلمانِ 1987- 1990، كأصغرِ نائبٍ، وهُو مُنفتحٌ علَى الحياةِ الحزبيّةِ والسياسيّةِ، ومُتفاعلٌ معَ كلِّ القوَى، وليسَ شخصيةً مُنغلقةً علَى الجماعةِ..

عصام العريان (يمين) وسعد الكتاتني و محمد البلتاجي
أزمةُ عصام العريان:

وهذَا الحضورُ الشخصيُّ للعريان، ربَّما كانَ سبباً فِي تأخُّرِ ترفيعِهِ لعضويةِ مكتبِ الإرشادِ، فلمْ يحدثْ هذَا إلّا بعدَ تهديدِ المرشدِ العامِّ للجماعةِ الأستاذِ مهدِي عاكف، بالاستقالةِ والذِي اعتكفَ فِي منزلِهِ، ولمْ يعُدْ إلَى مكتبِهِ إلّا بعدَ الاستجابةِ لهُ، وعندَما تمَّ الإعلانُ عنْ هذَا الاختيارِ، دُهشتِ الأوساطُ السياسيةُ منْ أنْ يكونَ العريان، بكلِّ هذَا الحضورِ الطاغِي، ليسَ عضواً فِي المُستوَى التنظيمِيِّ الأرفعِ فِي الجماعةِ.

يتّسمُ العريان بالحِدَّةِ، وفِي مرحلةِ مَا بعدَ الثّورةِ كانَ أكثرَ حدّةً، وكانتْ تصريحاتُهُ فِي أيِّ اتجاهٍ تصدرُ عصبيةً مُتوترةً، وأنَا أعرفُ حدّتَهُ هذِه التِي مارسَها معَ رجلٍ بحجمِ الشّيخِ صلاح أبو اسماعيل (والدِ حازم)، عندَما كانُوا يخطّطُونَ لخوضِ الانتخاباتِ فِي سنةِ 1987، وهُو فِي سنِّ أبنائِهِ، ممَّا أغضبَ الشّيخَ، واصطحبَهُ المُستشارُ مأمون الهضيبِي إلَى منزلِ الشّيخِ صلاح مُعتذراً، لكنَّهُ تقريباً لمْ يتقبّلِ الْاعتذارَ.

الشيخ صلاح أبو إسماعيل (يمين) والمستشار مامؤن الهضيبي

كانَ الشيخُ صلاح أبو اسماعيل قدْ قرَّرَ خوضَ الانتخاباتِ علَى المقعدِ الفرديِّ عنِ “التّحالف الإسلاميّ”، وكانَ العريان يصرُّ علَى أنْ يترشّحَ عَلى رأسِ القائمةِ، التِي سيترشحُ فيهَا هُو، وعندَما يئسَ العريان منِ إقناعِهِ، هدَّدهُ بأنَّه قادرٌ وبإشارةٍ مِنْ إصبعِهِ أنْ يصرفَ الجماهيرَ مِنْ حولِهِ.. مُستقوياً بالتّنظيمِ!

وغضبَ الشّيخُ وعندمَا جاءَ الهضيبي مُعتذراً، كانَ ردُّهُ أنَّ الأمرَ لَا يُنهيهِ الاعتذارُ، فهذهِ فكرةٌ تمُورُ بداخلِهِ، وقدْ جرتْ علَى لسانِهِ.

فالحِدّةُ طبعُهُ، وقدْ صارَ أكثرَ حدّةً، وقدْ شاهدنَاهُ فِي حوارٍ حادٍّ معَ عمرُو مُوسى فِي فيديو رائجٍ علَى مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ يقولُ لهُ فيهِ إنَّ مُبارك سيخرجُ مِنَ السِّجنِ إلَى القبرِ، دونَ أنْ نعرفَ سياقَ هذَا الحديثِ، لكنْ مهمَا يكُنُ فهذِهِ اللغةُ بالإلقاءِ الخاصِّ بهِ تبدُو مُتعاليةً بشكلٍ كبيرٍ!

ولمْ يرفعْ عبارتَه الشّهيرةَ “إنَّ زمنَ الانقلاباتِ العسكريّةِ قدْ ولَّى” فِي وجهِ الشّيخِ حازم أبو إسماعيل فقطْ، عندَما قالَ إنَّ الانقلاباتِ العسكريةَ انتهتْ ولمْ يعُدْ لهَا مكانٌ سوَى فِي رأسِ الشّيخِ حازم، لكنَّهُ ردّدَها فِي مواجهةِ السفيرةِ الأمريكيةِ عندَما التقتْ أحمد فهمي رئيسَ الشّورَى فِي مكتبِهِ فِي شهرِ مارس 2013، لتطلبَ أنْ يخرجَ قانونُ الجمعياتِ مُراعياً ملاحظاتِ المراكزِ الحقوقيّةِ، وهيَ معركةٌ قديمةٌ وحديثةٌ منذُ عهدِ مُبارك، تدورُ الملاحظاتُ حولَ أمرَينِ: الأوّلِ ألّا يكونَ لجهةِ الإدارةِ رقابةٌ علَى تشكيلِ المُنظماتِ وعملِها، والثَّانِي ألَّا يكونَ للإدارةِ دورٌ فِي عمليةِ التمويلِ الأجنبيِ لهذِه المُنظماتِ!

ونظامُ مُبارك لمْ يكُنْ يرفضُ عمليةَ التمويلِ، إلّا فِي المواجهةِ عبرَ الإعلامِ، لأنَّ الدولَ والمنظماتِ المانحةَ للمعوناتِ للدولةِ، تشترطُ أنْ يُسمحَ لهَا بتقديمِ نسبةٍ منَ التمويلِ للمنظماتِ الأهليةِ، والنظام ُيريدُ أنْ يكونَ الصرفُ والاختيارُ بيدِهِ!

كانتِ المنظماتُ الحقوقيةُ تضغطُ علَى مجلسِ الشورَى بأغلبيتِهِ الإخوانيّةِ، وفِي المُقابلِ كانَ الإخوانُ يتعرّضونَ لضغوطٍ فِي “الاتّجاهِ المعاكسِ” مِنْ قبلِ المخابراتِ العامةِ والمخابراتِ الحربيةِ، والتِي تنطلقُ منَ النظرةِ التقليديةِ والريبةِ منَ التمويلِ الأجنبيِّ باعتبارهِ يمكنُ أنْ يضرَّ بالأمنِ القوميِّ للبلادِ، وإذَا كانَ لا يمكنُ رفضُهُ كليةً، فعَلَى الأقلِّ ينبغِي أنْ يكونَ تحتَ سُلطةِ الدولةِ ورقابتِها، والإخوانُ يميلُونَ لهذِه الرؤيةِ.

فِي مواجهةِ السفيرةِ الأمريكيّةِ:

وأدارتِ السفيرةُ حواراً مَعَ فهمي وقياداتِ مجلسِ الشورَى، لمْ يخرجْ عنِ الأعرافِ الدبلوماسيّةِ فِي اختيارِ المفرداتِ والعباراتِ المُناسبةِ، فالدبلوماسيةُ الأمريكيةُ لَا تتعاملُ بطريقةِ اِفعلْ ولَا تفعلْ، وكونُها غيرَ حاسمةٍ، لاسيَّما في مجالِ حقوقِ الإنسانِ كانتْ تغرِي مُبارك بالمناورةِ، والتحايلِ، واللفِّ والدورانِ!

وقدْ أغرتْ هذِه الطريقةُ المجلسَ العسكريَّ فِي واقعةِ المتهمينَ فِي قضيةِ التمويلِ الأجنبيِّ منَ الأمريكيينَ بالمناورةِ. طلبُوا منْهم إلغاءَ قرارِ المنعِ منَ السفرِ للمتهمينَ، فكانَ الردُّ: هذَا قرارُ القضاءِ، والقضاءُ فِي مِصرَ مستقلٌّ. فلمَّا طلبُوا ألّا يمثُلَ المُتهمونَ داخلَ القفصِ باعتبارِ أنَّ هذَا فِي حدِّ ذاتهِ عقوبةٌ، لمتّهمينَ، الأصلُ أنَّهم أبرياءٌ إلَى أنْ تثبتَ إدانتُهم، كانَ ردُّ المجلسِ العسكريِّ: هذِه سلطةٌ تقديريةٌ للقاضِي ولَا نتدخلُ فِي شؤونِهِ احتراماً لمبْدأِ استقلالِ القضاءِ المصريِّ!

وبعدَ أيامٍ كانَ الأمرُ الأمريكيُّ: الطائرةُ الأمريكيةُ ستكونُ فِي الأجواءِ المصريّةِ بعدَ قليلٍ، إنْ لمْ يُفرجْ عنْهُم حالاً، فسوفَ تهبطُ الطائرةُ فِي مقرِّ السفارةِ (وكانُوا يحتمُونَ بهَا) لتحملَهم إلَى واشنطن، وكانَ مَا كانَ!

كانَ الحوارُ مَعَ السفيرةِ الأمريكيةِ يجرِي هادئاً قبلَ أنْ يقطعَهُ الدّكتورُ العريان موجّهاً كلامَهُ لهَا: “زمنُ الانقلاباتِ العسكريّةِ قدّ ولَّى”.

سألتُ رضا فهمي رئيسَ لجنةِ الأمنِ القوميِّ فِي المجلسِ وكانَ حاضراً اللقاءَ عنِ المبررِ الذِي جعلَهُ يقولُ هذَا، ولمْ يبدرْ منَ السفيرةِ أيُّ إشارةٍ يمكنُ أنْ تحملَ تهديداً بالانقلابِ العسكريِّ؟ فأجابَ: لَا أدْرِي!

إنّهُ يتحدثُ معَ سفيرةِ الدولةِ الراعيةِ للانقلاباتِ العسكريةِ فِي أمريكا اللاتينيةِ.. فمَنْ يقررُ أنَّ زمنَ الانقلاباتِ قدْ انتهَى، إلّا إذَا كانَ التهديدُ بمنْ يملكُ قوةً تستطيعُ مواجهةِ الانقلاباتِ، كمَا حدثَ فِي فنزويلا، عندَما قامَ ضباطٌ بالجيشِ بعزلِ الرئيسِ هوجو شافيز، ووضعِهِ فِي السِّجنِ، برعايةٍ أمريكيةٍ، فخرجَ الشعبُ وأخرجَ رئيسَهُ منَ السِّجنِ، ووضعَ الانقلابيينَ فيهِ!

هلْ كانَ الدكتورُ عصام بترديدِهِ هذهِ العبارةَ: ” زمنُ الانقلاباتِ العسكريّةِ قدْ ولَّى” التِي كانَ يردّدُها كثيراً، وأحياناً بدونِ مناسبةٍ، يطمئنُ نفسَهُ؟!

ويبقَى أنَّ زيادةَ منسوبِ التوترِ لدَى عصام العريان، هُو نتيجةٌ لشعورِهِ بالغبنِ، وكانَ يمكنُ أنْ يقومَ بدورٍ لدَى الأحزابِ السياسيةِ التِي يعرفُ قادتَها ويعرفونَهُ، لكنّهُ كانَ بعيداً عنِ المشهدِ، الذِي كانَ يديرُهُ مَنْ وصفتُهُم بـ “المستشرقينَ”، وهُم منَ الذينَ تمَّ استدعاؤُهم منَ الخارجِ لتشكيلِ حملةِ الدعايةِ الرئاسيةِ، ثمَّ شكّلُوا الفريقَ الرئاسيَّ الذِي دخلَ معَ الدكتورِ مُحمّد مُرْسي القصرَ ومكثَ فيهِ، وفِي المقابلِ تمَّ تهميشُ الدكتورِ مُحمّد البلتاجي الرمزِ الإخوانيِّ الذِي يعرفُهُ كلُّ مَن شاركَ فِي الثورةِ، وكلُّ مَن شاركَ فِي المظاهراتِ ضدَّ مُبارك، فالجماعةُ الآنَ فِي مرحلةِ الدولةِ لَا الثورةِ.

هُناكَ روايتانِ فِي حالةِ الدّكتورِ البلْتاجي؛ الأُولَى استمعتُ لهَا مِنْ مصدرٍ قريبٍ مِنَ القصرِ الجمهوريِّ، والثانيةُ تردُّ علَى الأولَى وتنفِيهَا وهيَ لمصدرٍ مِنْ داخلِ القصرِ. تقولُ الروايةُ الأولَى إنَّ الدكتورَ البلْتاجِي كانَ ممنوعاً مِنْ دخولِ القصرِ الجمهوريِّ، وإنَّ مكالماتِهِ الهاتفيةَ كانتْ تحوّلُ لرئيسِ الديوانِ السفيرِ رفاعة الطَهْطاوِي ولواحدٍ مِنْ خارج “اصطفِّ الإخوانِ” فِي الرّئاسةِ. والروايةُ الثانيةُ تقولُ إنَّ البلْتاجي كانَ يحضرُ للرئاسةِ وليسَ عليهِ حظرٌ، وكانَ يلتقِي بالجميعِ بمَنْ فيهِم الرئيسُ!

المؤكّدُ أنَّهُ بعدَ اجتماعاتِ فيرمونت، لمْ توظفْ علاقاتُ البلتاجي بقوَى الثورةِ فِي عمليةِ رأْبِ الصدْعِ، والبعضُ كانَ يعتقدُ أنَّهُ هُو منْ غررَ بهِم عامداً مُتعمداً، فناصَرُوا الدكتورَ مُحمد مُرسي، حتّى أُعلنتِ الانتخاباتُ الرّئاسيةُ فلمْ يلتزمْ بشيءٍ، وكانتِ البدايةُ بتشكيلِ حكومةٍ ليستْ على مُستوَى آمالِ الثّوارِ، وكانتْ علاقةُ البلْتاجي بهِم جيدةً، باعتبارهِ واحداً منْهم، شاركَ فِي الثّورةِ مِنْ أوّلِ يومٍ، كمَا شاركَ فِي انتفاضةِ القضاةِ وغيرِها، ضمنَ نوابِ الجماعةِ الذينَ جاؤُوا لدارِ القضاءِ العالِي وللنيابةِ لمناصرةِ القضاةِ فِي انتفاضتِهم، وقدْ شاهدْنا كيفَ تدخّلَ لدَى الشبابِ الذِي يهتفُ بسقوطِ حُكمِ العسكرِ، معَ دخولِ طَنطاوِي والوفدِ المرافقِ لهُ قاعةَ جامعةِ القاهرةِ، فاستجابُوا لهُ وتوقّفُوا.

أزمةُ البرادْعي:

لقدْ خرجتُ بعدَ هذَا اللقاءِ، أسألُ كلَّ المقربينَ منَ الدكتورِ البرادْعي عَنْ صحّةِ مَا يتردّدُ منْ أنَّهم عرضُوا عليهِ منصبَ رئيسِ الحكومةِ، لكنَّهُ طلبَ صلاحياتٍ واسعةً كشرطٍ للمُوافقةِ علَى قَبولِ العرضِ، فنفَوا تواصلَهم معَهُ بمَنْ فِي ذلكَ الدكتورُ عبدُ الجليل مصطَفى، الذِي أشارَ عليَّ بسؤالِ جورج إسحاق المُنسّقِ العامِّ السابقِ لحركةِ “كفاية” فهُو علَى اتّصالٍ دائمٍ بهِ!

كانَ واضحاً أنَّ شخصيةَ البرادعي كانتْ دافعاً لأنْ ينفضَّ الناسُ مِنْ حولهِ، وقدْ كتبَ الدكتورُ حسن نافعة مقالاً قبلَ الثورةِ يعلنُ فيهِ عَنْ خيبةِ الرجاءِ فيهِ، وأكَّد الإعلاميُّ حمدي قِنديل علَى هذِهِ العيوبِ الشخصيةِ فِي مذكَّراتهِ التِي صدرتْ فِي سنةِ 2014: “عشتُ مرّتَين”، فهيَ شخصيةٌ كسولةٌ، تكرَهُ التواصلَ معَ الناسِ، وتفتقدُ القدرةَ والحماسَ لأيِّ عملٍ. فهلْ دفعَ بهِ الأمريكانُ ليقومَ بدورِ البديلِ المُحتملِ، خوفاً مِنْ أيِّ عارضٍ يُسقطُ نظامَ مُبارك، معَ غيابِ البديلِ الآمنِ، وأنّهُ يَعتبر – لهذَا – نفسَهُ فِي مَهمةٍ، وأنَّ شغفَهُ بالسُلطةِ لَا يساوِي تكبُّدَهُ عناءَ المُخاطرةِ، والتواصلِ معَ الناسِ والاحتكاكِ بالجماهيرِ؟!

إنّهُ كانَ يبحثُ عنْ تقاعدٍ من الوظيفةِ بعيداً عَنْ وجعِ الدماغِ كمَا النّاسُ فِي الغربِ، وقدْ يكونُ مُناسباً أنْ يقضيَ فترةَ تقاعدِهِ فِي منصبٍ رفيعٍ، رئيساً للجمهوريةٍ، أَو رئيساً للوزراءِ، أَو حتّى فِي منصبٍ شرفيٍ كبيرٍ، كمساعدِ رئيسِ الجمهوريةِ، المهمُّ جوازُ السفرِ الدبلوماسيُّ الذِي تدوّنُ فيهِ الوظيفةُ الكبيرةُ، فمنَ الواضحِ أنَّه لَا يكفيهِ أنْ يكونَ الرئيسَ السابقَ لهيئةٍ دوليةٍ كهيئةِ الطاقةِ!

بَيدَ أنَّه اكتشفَ أنَّ الثمنَ باهظٌ، إنّه يستدعِي أنْ يكونَ علَى تواصلٍ دائمٍ معَ هؤلاءِ الذينَ فرضُوا عليهِ تشكيلَ الجمعيةِ الوطنيةِ للتغييرِ، رغمَ عدمِ رغبتِهِ فِي ذلكَ، يا لَها مِنْ أجواءٍ قلقةٍ لشخصٍ يريدُ أنْ يقضيَ فترةَ تقاعدِهِ فِي سلامٍ!

لقدْ سلَّمَ هاتفَهُ لشقيقِهِ “عَلِي”، فمَنْ يريدُ مُحمّد البرادْعي، يتصلُ أولاً بـ “عَلِي البرادعي” الذِي يحدّدُ لهُ موعداً للاتصالِ، بعدَ مراجعةِ شقيقِهِ الأكبرِ، هذَا إنْ وجدَ “عَلي” أهميةً للاتصالِ وللمُتصلِ ولموضوعِ الاتصالِ!

وبعدَ فترةٍ تضخّمتْ ذاتُ “عَلي البرادعي”، فسلمَ الهاتفَ لمُساعدٍ لهُ، فمَنْ يريدُ مُحمّد البرادعي، يتصلُ بالحاملِ الجديدِ للهاتفِ، الذِي يعرفُ موضوعَ الاتّصالِ واسمَ المُتصلِ، ويرفعُهُما إلَى “علي البرادعي”، الذِي بدورِهِ يرفعُ الأمرَ بعدَ تقديرِهِ لشقيقِهِ الأكبرِ!

وعندمَا أخذتُ بنصيحةِ عبدِ الجليل مصطَفى وسألتْ جورج إسحاق الذِي كانَ يقفُ منّا غيرَ بعيدٍ داخلَ جامعةِ القاهرةِ، حولَ ما تردّدَ مِنْ أنَّ البرادعِي تلقَّى عرضاً بتشكيلِ الحكومةِ فقالَ لِي:

“البرادعي مِنْ يومْ مَا مَحمّد مُرسي نجحْ وهَو قاعدْ جنبْ التليفونْ علَى أملْ أنْ يتصلْ بهِ، فلمْ يتصلْ بهِ أحدْ إلى الآنْ”!

ولَا أنكرُ أنّنِي كنتُ مُتحمّساً لهذَا الاختيارِ، بلْ إنَّه لَو خاضَ انتخاباتِ الرئاسةِ كنتُ سأنتخبُهُ، ولمْ أكُنْ أعرفُ طبيعةَ شخصيتِهِ لأنَّني لمْ أتعاملْ معَهُ عنْ قربٍ، ولهذَا عندمَا كتبَ حسن نافعة ينتقدُهُ، اعتبرتْ أنَّ المستفيدَ بذلكَ هُو نظامُ مُبارك، فكتبتُ مقالاً حادّاً حملَ عنوانَ: “حسن نافعة الذِي يرَى حسناً مَا ليسَ بالحسنِ”!

حسن نافعة (يمين) ومحمد البرادعي و حمدي قنديل

ومعَ هذَا الوعْيِ المتأخّرِ، فلَو عادَ بِي الأمرُ مرةً أخرَى، لرأيتُ أنَّ وجودَهُ علَى رأسِ الحكومةِ، بحسبِ الظاهرِ منْهُ، هُو خيارٌ أفضلُ، فاختيارُه لمْ يكُنْ سيتعرّضُ لمزايدةٍ حتَّى منَ الذينَ يعرفونَ أنَّهُ “لَا يُشدُّ بهِ ظهرٌ”، فهُو شخصيةٌ دوليةٌ معروفةٌ، وهُو محسوبٌ علَى ثورةِ يناير، وينتمِي للتيارِ المدنيِّ!

لكنَّ الرئيسَ مُحمّد مُرسي كانَ لهُ رأيٌ آخرُ، فاختارَ وزيرَ الريِّ هشام قِنديل رئيساً للحكومةِ، فكانتْ خيبةُ الأملِ كبيرةً.

خيبةُ غطّتْ علَى التفاصيلِ:

وهيَ خيبةٌ بلغَ الإحساسُ بِها، حدَّ أنَّها غطّتْ علَى التفاصيلِ، فمِنْ بينِ أعضاءِ الحكومةِ مَنْ لا يمكنُ لهُ أنْ تضمَّهُ حكومةٌ والثورةُ تفرزُ خيارَها الرئاسيَّ، وهُو اللواءُ مُحمّد زكي عابْدين، لقدْ كانَ مُحافظاً لكفرِ الشّيخِ، وفِي أيّامِ الثّورةِ، خرجَ منَ المُحافظةِ وجمعَ المُوظفينَ مِنْ حولِهِ، واعتلَى سيارتَهُ وفِي مواجهةِ المظاهراتِ انتصبَ يهتفُ بحياةِ مُبارك!

وبدَا لِي أنّني وحدِي مَنْ انتبهَ لهذَا الاختيارِ البائسِ، ولواحدٍ منَ الفلولِ وقدْ جَهر بالمعصيةِ فِي أيّامِ الثّورةِ، ليكونَ وزيراً للتنميةِ المحليةِ، ليسَ مجردَ مُحافظِ ولكنْ رئيساً لعمومِ المُحافظينَ!

سألتْ عَنْ سببِ اختيارِهِ وقتئِذٍ، فقِيلَ لِي إنَّهُ اختيارُ المجلسِ العسكريِّ!

وهكذَا فِي كلِّ مرّةٍ، فعندَمَا سألتُ عَنْ سرِّ تعيينِ مُنى مكرم عبيد عضواً فِي مجلسِ الشورَى بقرارٍ منَ الرئيسِ مُرسي، وهِي التِي عيَّنها مُبارك عضواً فِي برلماناتِهِ وإلَى آخرِ برلمانٍ لهُ، وسبقَ لهَا الترشحُ علَى قوائمِ الحزبِ الوطنيِّ؟ فقيلَ لِي إنَّها ترشيحُ البابا؟!

وماذَا كانَ سيحدثُ لو طلبتِ الرئاسَةُ منَ المجلسِ العسكريِّ أنْ يرشّحَ آخرَ بديلاً عنْ هذَا “الفلّ” وهلْ كانتِ الكنيسةُ سترفضُ إذَا طُلبَ منها خيارٌ آخرُ؟!. إنَّها إنْ رفضتْ فسيكونُ تسريبُ هذَا الرفضِ للإعلامِ مَا مِنْ شأنِهِ أنْ يحرجَها فتكفَّ أذاهَا عَنِ الثورةِ.

لكنْ هلْ كانَ الرئيسُ والذينَ مِنْ حولِهِ يعرفونَ تاريخَ مُنى مكرم عبيد، أَو مَا جرَى مِنْ أحمد زكي عابْدين؟ الذِي عيّنَهُ عبدُ الفتّاح السّيسي الآنَ رئيساً لعاصمتِهِ الإداريّةِ الجديدةِ؟!

اللواء أحمد زكي عابدين (يمين) والنائبة السابقة منى مكرم عبيد

كانَ انشغالُ القوَى الثوريّةِ بالعنوانِ،  يغنِي عَنِ المتنِ، وكانَ العنوانُ هُو الدكتورَ هشام قِنديل، الذِي شغلَ منصبَ رئيسِ الوزراءِ، والذِي عَمِلَ مديراً لمكتبِ آخرِ وزيرِ ريٍّ فِي عهدِ مُبارك الدكتورِ نصر الدين علام، واختارَهُ المجلسُ العسكريُّ وزيراً للريِّ، عندَما كانَ العنوانُ هُو حكومةَ كفاءاتٍ، وهُو أمرٌ ارتبطَ فِي مِصرَ بحكمِ العسكرِ بعدَ انقلابِ يوليو 1952، بعدَ تغييبِ السياسةِ، وهيَ نظرةٌ تجعلُ مِنَ الوزارةِ وظيفةً، حتَّى لا يعلُو صوتٌ علَى صوتِ الرئيسِ، ولا تبرزُ شخصيّةٌ سياسيةٌ تنافسُ الرئيسَ علَى الزعامةِ، فيصبحُ وزيرُ العدلِ قاضياً، ووزيرُ الدّفاعِ ضابطاً، ووزيرُ الداخليةِ شرطياً، وهكَذا!

ولمْ يكُنْ غريباً أنَّه فِي مرحلةِ مَا قبلَ الانقلابِ العسكريِّ أنْ يكونَ فؤاد باشا سراج الدين الذِي تخرّجَ فِي كليةِ الحقوقِ هُو وزيرَ ماليةٍ، ثم وزيراً للداخليةِ، وبعدَ مرحلةِ رئيسِ الوزراءِ “الطبيبِ” فؤاد محيي الدين، صاحبِ الشخصيةِ القويةِ التي تملكُ خلفيةً سياسيّةً، اعتمدَ مُبارك علَى الموظفينَ، اسماً وسلوكاً، لكنَّهم كانُوا فِي معظمِهم يتمتَّعونَ بالوجاهةِ الاجتماعيةِ والمكانةِ الوظيفيةِ المرموقةِ قبلَ اختيارِهم، وإنِ افتقدُوا للقيمةِ السياسيةِ بشكلٍ يجعلُهم آلاتٍ لتنفيذِ التعليماتِ.

الاختيارُ الخاطئُ:

وإنْ كانَ الاختيارُ هبطَ فِي عهدِ مبارك، باختيارِ أحمد نظيف، وهُو اختيارُ جمال مبارك ومجموعتِهِ، وكانَ قدْ سبقَ حكومتَهُ حكومةَ عاطف عبيد، الذِي هبطَ بمُستوَى مِنَ الترشيحاتِ إلَى مُستوَى أطلقتُ عليهِ وقتئذٍ دولةَ السكرتاريةِ ومُديرِي المكاتبِ، فمديرُ مكتبِ عبيد فِي وزارةِ قطاعِ الأعمالِ مختار خطاب تمَّ اختيارُهُ وزيراً، وثلاثةٌ مِنْ أعضاءِ هذهِ الحكومةِ كانُوا مُديرِي مكتبِ يُوسفَ والِي وزيرِ الزراعةِ فِي مراحلَ مختلفةٍ صارُوا وزراءَ مِنْ بينِهم الدكتورُ حسن خضر صارَ وزيراً للتموينِ.

ويعدُّ اختيارُ هشام قِنديل رئيساً للوزارةِ امتداداً لهذهِ المرحلةِ، وإذَا كانَ مقبولاً فِي ظلِّ حكوماتٍ غيبتِ السياسةَ، فهلْ يليقُ فِي مرحلةٍ السياسةُ فيهَا حاضرةٌ وبقوةٍ، وهذَا أوّلُ رئيسٍ مدنيٍّ وليسَ عسكرياً يحتفِي بالتكنوقراطِ، ويستكملُ تأسيسَ دولةِ الموظفينَ، فمَنِ اختارَ هشام قِنديل رئيساً للحكومةِ؟!

شاركتُ فِي برنامجِ الشّيخِ خالد عبد الله بقناةِ “النّاس”، وأبديتُ اعتراضِي علَى استمرارِ هشام قِنديل رئيساً للحكومةِ وتمسُّكِ الرئيسِ مُحمّد مُرسي بهِ، وانبرَى زميلِي “عماد الدّين حُسين” رئيسُ تحريرِ جريدةِ “الشروق” مدافعاً عَنْ هذَا الاختيارِ، وعدَّدَ مناقبَ الرجلِ، وشهاداتِهِ العلميةَ، والتِي كانَ يحفظُها عَنْ ظهرِ قلبٍ، وكثيرٌ منْها أجهلُهُ تماماً، لكنَّ كلَّ طاقمِ سكرتاريةِ الوزراءِ الذينَ صارُوا وزراءَ فِي مرحلةِ مَا قبلَ الثورة،ِ يحملونَ شهاداتٍ علميةً مُهمةً، فكلُّهُم تقريباً حاصلونَ علَى درجةِ الدكتوراه، لكنَّنا فِي مرحلةٍ نبحثُ عَنِ “الوجاهةِ السياسيةِ” وليسَ عنْ مسوغاتِ التعيينِ فِي وظيفةٍ كُبرَى!

الصحفي عماد الدين حسين (يمين) وخالد عبد الله

إنَّ منصبَ الوزيرِ، ناهيكَ عَنْ منصبِ رئيسِ الوزراءِ، هُو منصبٌ سياسيٌّ فِي المقامِ الأوّلِ، والدكتورُ هشام قِنديل هُو رجلٌ شريفٌ، لمْ يُضبطْ متلبّساً بمَا يشينُ، سواءٌ عندَما كانَ قريباً مِنْ وزيرِ الريِّ الأسبقِ، أَو وزيراً للريِّ، أَو فِي السنةِ إلا قليلاً الّتي قضاهَا رئيساً للوزراءِ، لكنَّ هذِه أمورٌ لَا تكفِي وحدَها لشغلِ منصبِ رئيسِ الوزراءِ، وبعضُ الوزراءِ فِي عهدِ مُبارك كانُوا شرفاءَ، وبعضُهم لمْ يكُنْ فاسداً وإنْ كانَ مفسداً، وبعدَ عشرينَ سنةً قضاهَا ماهر أباظة فِي وزارةِ الكهرباءِ، كانَ يبحثُ عَنْ بيعِ قطعةِ أرضٍ بالميراثِ لعلاجِ زوجتِهِ، لكنْ هنُاك مَن اغتنَوا مِنْ ورائِهِ، وانتقلُوا مِنْ طبقةٍ إلَى طبقةٍ، ومِنْ طبقةِ المُستأجرينَ إلَى طبقةِ المُلّاكِ!

فمَنِ اخْتارَ هشام قِنديل رئيساً لمجلسِ الوزراءِ؟

الأطرافُ كافةً التِي التقيتُ بهَا مِنْ دوائرِ الرئاسةِ إلَى دوائرِ الجماعةِ كانَ الردُّ: لانعرفُ!، وهذَا طبيعيٌّ، لأنَّ السؤالَ وإنْ كنتُ قدْ بدأتُ طرحَهُ مبكراً وقبلَ الانقلابِ، فإنَّ المعنيّينَ بالإجابةِ يدركُونَ أنَّهُ اختيارٌ مثَّلَ نقطةَ ضعفٍ؟!

هلْ كانَ الرئيسُ مُحمّد مُرسي يعرفُهُ قبلَ فوزِهِ فِي انتخاباتِ الرئاسةِ، وأنَّه مَنِ اختارَه بِناءً علَى ثقتِهِ فِيمنْ رشّحَهُ، سَواء كانتِ الجماعةُ أو غيرُها؟

 لكنَّ الملاحظَ أنَّه تمسّكَ بهِ، وربَّما لمْ يفكّرْ فِي تغييرِهِ إلّا فِي الوقتِ الضائعِ، وعندَما اقترحَ أنْ يتولّى عبدُ الفتاح السيسي رئاسةَ الوزراءِ، وقد طُرحَ عليهِ منْ قبلُ أنْ يعيدَ تجرِبةَ عبدِ الناصر، فِي الجمعِ بينَ منصبِ الرئيسِ ورئيسِ الحكومةِ، ولمْ يكُنْ مَنْ قدَّم لهُ هذَا العرضَ يعلمُ أنَّ مبارك جمعَ بينَ المنصبينِ أيضاً، وأنَّ خطوةَ تعيينِ فؤاد محيي الدين، للمنصبِ بعدَ أنْ كانَ يشغلُ نائبَ رئيسِ الحكومةِ، كانتْ فِي مرحلةٍ تاليةٍ!

إنَّ وفداً مِنْ إخوانِ موريتانيا زارَ مكتبَ الإرشادِ، وهُناكَ سألَ إنْ كانتِ الجماعةُ علَى تواصلٍ معَ الرئيسِ وكيفيةِ التواصلِ، وهلْ كانَ للجماعةِ يدٌ فِي تعيينِ رئيسِ الوزراءِ؟ وكانَ الردُّ مُتحفّظاً، فقدْ وضعْنا الخطوطَ العريضةَ لشخصيةِ رئيسِ الحكومةِ!

وتكمنُ المشكلةُ فِي هذِه الخطوطِ العريضةِ، وهِيَ ألّا يكونَ زعيماً سياسياً خلْفَهُ أنصارٌ أو حزبٌ، أَو أنْ يكونَ شخصيةً تمتّعُ بالنّجوميةِ!

لَا بأسَ، إنَّهم يريدونَ موظّفاً، يتمتعُ بسماتِ الموظفينَ، يشغلُ هذَا المنصبَ الكبيرَ!

وممَّا قِيلَ لِي إنَّ المجلسَ العسكريَّ اقترحَ أنْ يكونَ رئيسُ الوزراءِ مِنَ الوزراءِ الحاليينَ، حتَّى يكونَ مُطلعاً علَى “دولابِ” العملِ بالدولةِ. فكانَ هشام قِنديل هُو الخيارَ المناسبَ ولاشكَّ!

لكنْ فِي المقابلِ، فإنَّ الرئيسَ لمْ يتعاملْ معَ هذَا الرأْيِ باعتبارِه أمراً عسكريّاً، والدليلُ أنّه عرضَ المنصبَ علَى شخصيةٍ مثلِ “فاروق العقدة” محافظِ البنكِ المركزيِ، والذِي اعتذرَ عَنْ قَبولِ المنصبِ، ليسَ امتناعاً عنِ التعاونِ فقدْ كانَ يمنِّي نفسَهُ عندمَا طُلبَ لمقابلةِ الرئيسِ أن يختارَه مُستشاراً اقتصادياًّ لهُ، لأنَّه رأَى أنَّه لَا يستطيعُ أنْ يفِي بمتطلباتِ المنصبِ لكبرِ سنِّهِ!

لكنْ حتَّى هذَا الاختيارِ يؤكّدُ علَى أنَّ الاختيارَ محصورٌ فِي دائرةِ التكنوقراطِ!

ولمْ تكُنِ اقْتراحاتُ القوَى المدنيةِ ممَّا يشرحُ الصدرَ، فقدْ طلبَ الناشطُ السياسيُّ وعضوُ البرلمانِ المُنحلِ مصطَفى النجّار وألحَّ فِي الطلبِ، أنْ يتمَّ اختيارُ الدكتورِ عمرو الشوبكي رئيساً للحكومةِ، دونَ أنْ يقدِّمَ مبرراً موضوعيّاً.

إنَّ هنُاكَ أسباباً أخرَى تدفعُ الرئيسَ لأنْ يدورَ فِي حلقةِ الموظفينَ بمعناهَا المتداوَلِ، وهيَ أنَّهُ منَ الطبيعِيِّ ألَّا يأتِي بشخصيةٍ مستقلةٍ، فيطغَى حضورُهُ علَى حضورِ الرئيسِ، وهذَا مفهومٌ، ومعلومٌ، ومقدرٌ، ثمَّ أنَّهُ يقدرُ أيضاً ألّا تكونَ شخصيةٌ تقومُ بدورِ المُنافسِ للرئيسِ وليسَ المُتعاون معَهُ، وهُناكَ المجلسُ العسكريُّ لَا يزالُ فِي الحُكمِ وهُناكَ أطرافٌ أخرَى تعملُ علَى استمرارِهِ، ومنْ بينِها المحكمةُ الدستوريةُ العُليا، وقدْ يذهبُ رئيسُ الحكومةِ الجديدُ إلَى معسكرِ العسكرِ باعتبارِه الأقوَى!

رئيس الوزراء الأسبق هشام قنديل

لقدِ استمرَّ الاختيارُ علَى مَاهُو عليهِ بعدَ ذلكَ، ومعَ تغييرِ الحكومةِ، لأنَّ الحُكمَ لمْ يشهدْ حالةً منَ الاستقرارِ طولَ سنةِ الرئيسِ مُرسي فِي الحُكمِ إلّا أياماً، ثمَّ إنَّ الرجلَ كانَ يعملُ بجدٍّ وإخلاصٍ، وإنْ كانَ يفتقدُ البُعدَ السياسيَّ، لأنَّه فِي الأصلِ لمْ يمارسِ السياسةَ مِنْ قبلُ ولمْ ينشغلْ بمَنْ يمارسونَهَا، وربَّما وجدَ الرئيسُ أنَّ كلَّ مَا طالبتِ المعارضةُ بهِ هُو منْ بابِ التجنّي عليهِ، فتمسَّكَ بهِ منْ بابِ العنادِ، وهُو رجلٌ عنيدٌ بشهادةِ الشهودِ، وسوفَ نتطرقُ لطبيعةِ شخصيةِ الدكتورِ مُحمد مُرسي فيمَا بعدُ.

ومعَ ذلكَ كانَ الدكتورُ مُحمّد مُرسي صدرُهُ مفتوحٌ لمَن يبدِي اعتراضَه أو تململَهُ منْ هذَا الاختيارِ والتمسّكِ بهِ، كانَ يسألُ دائماً: “مالُهْ الدّكتورْ هشام قَنديل”؟، وهُو سؤالٌ استنكاريٌ فلَا يوجدُ عندَهُ مَا يقللُ منْ شأنِ الرجلِ إلّا أنْ يكونَ فاسداً، ومَا دامَ ليسَ كذلكَ فـ “مالُهْ الدكتورْ هشام قَنديل”؟!

كانَ الرئيسُ مُحمّد مُرسي ينادِي الناسَ بألقابِهم، لمْ يتصرفْ مرةً كمَا فعلَ حُسين طَنطاوِي وهُو يطيحُ فِي أحدِ المُتكلمينَ فِي حضرتِهِ، إنْتَ مِين؟.. مِين دَهْ؟ قبلَ أنْ يقولَ لهُ الرجلُ: أنَا وزيرُ الزراعةِ. ولمْ يعاملْهُ معاملةَ مُبارك معَ وزرائِهِ، لأنَّهُ جاءَ منْ مدرسةٍ مختلفةٍ، حيثُ الرتبةُ لا تلغِي الأقديمةَ ولا تمحُو أقدارَ الآخرينَ!

يبدُو أنَّ الرئيسَ لمْ يكُنْ مُقتنعاً بفكرةِ أنَّ مصرَ بحاجةٍ لردِّ الاعتبارِ للسياسةِ، فيكُونُ رئيسُ الوزراءِ سياسياً، وليسَ موظفاً جاءَ لموقعِهِ عنْ طريقِ وزارةِ القوَى العاملةِ!

فِي يومِ 25 يوليو 2012، وهُو اليومُ التالِي لاختيارِ الدكتورِ هشام قِنديل رئيساً للوزراءِ بعدَ طولِ انتظارٍ، صدرتْ جريدةُ “المصري اليوم” بعنوانِ: “مُفاجأة مُرسي رئيس وزراء بعيداً عن السياسة”.

الوصيُّ علَى العرشِ:

ولمْ يفوّتِ المجلسُ العسكريُ الفرصةَ، ليوحِيَ أنّهُ يقومُ بدورِ “الوصيِ علَى العرشِ”، وللتذكيرِ بأنّهُ موجودٌ فِي السُّلطةِ، ومَا ينتجُ عنْ هذَا الوجودِ منْ آثارٍ أخصُّها الاستمرارُ فِي مُعارضةِ الرئيسِ، وقطعُ الطريقِ أمامَ مَنْ يفكّرونَ فِي التودّدِ للحُكمِ الجديدِ، فلَا يزالُ المجلسُ العسكريُّ فِي الحُكمِ.

لقدْ نشرَ المجلسُ العسكريُّ علَى نطاقٍ واسعٍ، أنَّه عقدَ اجتماعاً (طارئاً) برئاسةِ المُشيرِ حُسين طَنطاوي القائدِ العامِّ – رئيسِ المجلسِ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ، بحثَ خلالَهُ (المستجداتِ علَى الساحةِ السياسيةِ والأوضاعَ الراهنةَ).. وتناولَ الاجتماعُ (المتغيراتِ الّتي طرأتْ علَى الساحةِ السياسيةِ ومنْ بينِها الحكومةُ الجديدةُ).

فالاجتماعُ طارئٌ إذنْ، وهُو لمناقشةِ المُستجداتِ السياسيةِ والأوضاعِ الراهنةِ، وتشكيلِ الحكومةِ، وهيَ أمورٌ كلُّها خارجَ الاختصاصِ المعقودِ للمجلسِ فِي الإعلانِ الدستوريِّ المكمّلِ.

لكنْ منَ الواضحِ، أنَّ المستهدفَ منَ الاجتماعِ الطارئِ والنشرِ الواسعِ لهُ، أنَّها رسالةٌ مزدوجةٌ فهيَ رسالةٌ للجماهيرِ وللقوَى السياسيةِ، بأنَّ المجلسَ هُو “الوصيُّ علَى الحُكمِ”، ورسالةٌ إلَى الرئيسِ نفسِهِ، فربَّما تخوّفَ طَنطاوِي، مِنْ أنْ يفاجِئَهُ مُحمد مُرسي، بانقلابٍ عليهِ، بعدَ هزيمتِهِ فِي سحبِ اختصاصِ المجلسِ العسكريِّ بعودةِ مجلسِ الشعبِ!

كانتِ الرسالةُ أنَّ المجلسَ العسكريَّ عَلَى أُهْبَةِ الاستعدادِ لأيِّ تطوراتٍ، وأنَّهُ يعقدُ اجتماعاً طارئاً تحسباً لأيِّ تطورٍ، وأنَّ جميعَ أعضائِهِ قدِ اجتمعُوا برئاسةِ (القائدِ العامِّ – رئيسِ المجلسِ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ).

والدعوةُ إلَى مثلِ هذهِ الاجتماعاتِ فِي هذهِ اللحظاتِ يمكنُ أنْ يحدثَ فِيها مَا يكشفُ إنْ كانتْ هناكَ مؤامرةٌ، فعضوُ المجلسِ الذِي لَا يحضرُ، قدْ يكونُ هُو منْ وقعَ عليهِ الاختيارُ وزيراً، وقدْ يحضرُ لكنَّ أداءَه منْ حيثُ لغةُ الجسدِ، ونبرةُ الصوتِ، يختلفُ عنِ الأداءِ السابقِ لهُ، فيتمُّ اكتشافُ المؤامرةِ مبكّراً.

لقدْ تعلّمْنا أهميةَ أنْ نقرأَ مَا بينَ السطورِ، وفِي خبرِ اجتماعِ المجلسِ العسكريِّ، نُشرَ محشوراً تصريحاتٌ للمتحدثِ باسمِ الرئاسةِ ياسر علي، نفَى فيهَا أنْ يكونَ هُناكَ خلافٌ بينَ الرئيسِ والمجلسِ العسكريِّ علَى اختيارِ وزيرِ الدفاعِ، وأنَّ أمرَ اختيارِ الوزيرِ سيكونُ بالتشاورِ بينَ المجلسِ والرئيسِ.

ياسر علي المتحدث باسم الرئاسة إبان حكم الرئيس الراحل محمد مرسي

لمْ يكنْ هناكَ كلامٌ أُثيرَ حولَ وجودِ خلافٍ، ولَا نستبعدُ أنْ يكونَ اتّصالُ المحرّرِ بـ “ياسر علي” هُو بتكليفٍ منْ أحدِ الأعضاءِ بالمجلسِ العسكريِّ، لـ “جسِّ النّبضِ”، والسؤالُ فِي حدِّ ذاتِهِ يُوحِي للرئاسةِ أنَّ الاجتماعَ الطارئَ هُو لمناقشةِ هذَا الاحتمالِ!

بَيدَ أنَّ ياسر علَي، لمْ ينفِ التفكيرَ فِي اختيارِ وزيرٍ جديدٍ للدفاعِ، فلمْ يعلنْ تمسكَ الرئاسةِ بالمُشيرِ مُحمّد حُسين طَنطاوي، وإنْ كانَ قدْ ثبّتَ فؤادَهم بأنَّ الأمرَ سيتمُّ بالتشاورِ معَ المجلسِ العسكريِّ، والمجلسُ بهذَا الاجتماعِ يبدُو أنَّه علَى قلبِ رجلٍ واحدٍ.

يقولُونَ: “إنَّ أخذَ الحقِّ صَنْعَة”..

وقدْ هُزِمَ الرئيسُ فِي أوّلِ جولةٍ، لكنَّ الحروبَ سجالٌ.

لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثانية يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثالثة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الرابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الخامسة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السادسة يرجى الضغط هنا
المصدر : الجزيرة مباشر