عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة السادسة]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي

لمْ يدخلِ الدّكتورُ مُحمّد مُرْسْي القصرَ الرّئاسيَّ خائفاً يترَقَّبُ، كانَ التّلفزيونُ ينقُلُ هذِهِ اللحظةَ التّاريخيّةَ فِي تاريخِ مِصْرَ، وَكانَ هُوَ عَلَى مُستوَى هذِهِ اللحظةِ

تقرير سليم عزوز:

لمْ يكُنْ مُتهيِّباً المَوقفَ لعلَّهُ استدعَى وقتَها كُلَّ جيناتِ الفلّاحِ الجسُورِ، فكانَ دخولُهُ بصدْرِهِ، رُغمَ إدراكِ الجميعِ أنَّهُ فِي أجواءٍ مُعاديةٍ، وَأنَّ هُناكَ مَنْ يُقاسمُهُ الحُكمَ، فَلمْ تكُنْ صلاحيّاتُهُ كاملةً، وَكانَ هذَا باغْتصابِ المجلسِ العسكري سُلطةَ التّشريعِ، مِنْ خلالِ الإعلانِ الدُّستُوريِّ المُكمِّلِ، وبقيامِهِ بتشكيلِ مجلسِ الأمنِ القوميِّ بأغلبيّةٍ عسكريّةٍ، ليكُونَ شريكاً قَويّاً فِي الحُكمِ، وكانَ الإجماعُ مُنعقداً أنّهُ اغتصابٌ للسُّلطةِ، مِمَّا دفعَ المُحامِيَ والمرشّحَ الرّئاسيَّ السّابقَ خالد علي لرفعِ دعوَى قضائيّةٍ لإلغاءِ تشكيلِ المجلسِ، عَلَى أساسِ أنَّ هذَا التّشكيلَ قامَ بانْتهاكٍ صريحٍ وواضحٍ للنّظامِ الدّيمقراطيِّ الّذِي تسيرُ علَيهِ البلادُ بسيادةِ الطّابعِ العسكريِّ والهيمنةِ العسكريّةِ عَلَى أغلبيّةِ أعضائِهِ.

وأشارتُ عريضةُ الدّعوَى إلَى أنَّ موعدَ إصدارِ القرارِ يُؤكِّدُ هيمنةَ المجلسِ الأعلَى للقوّاتِ المُسلّحةِ عَلَى السُّلطةِ المُنتخَبةِ وتحكُّمِهَا فِي إصدارِ جميعِ القراراتِ عَنْ مجلسِ الدّفاعِ الوطنيِّ، حيثُ إنَّهُ صدرَ فِي 14 يونيو2012، أَيْ قَبلَ موعدِ تسليمِ السُّلطةِ للرّئيسِ المدنيِ المُنتخبِ بأيّامٍ قليلةٍ. مُشيراً إلَى أنَّ مَهمّةَ هذَا المجلسِ لَا تتعلَّقُ بشؤونِ الحربِ فقطْ، لكنْ فِي بعضِ الأحيانِ يتطرَّقُ لشؤونِ السّياسةِ الخارجيّةِ.

ولمْ يكُنْ دُخولُ مُرْسِي القصرَ الرّئاسيَّ هُوَ اللحظةَ التاريخيّةَ الوحيدةَ فِي هذِهِ الأيّامِ، فقدْ كانتْ أُولَى اللحظاتِ التّاريخيّةِ هِيَ إعلانَ فوزِ أوّلِ رئيسٍ مدنيٍّ مُنتخبٍ، بالإرادةِ الحُرّةِ للشّعبِ المِصرِيِّ، كَمَا كانتْ هُناكَ لحظةٌ أُخرَى، عندَمَا وقفَ هذَا الرّئيسُ المُنتخَبُ فِي ميدانِ التّحريرِ وسْطَ الحشودِ ليخطبَ فِيهَا، ويحاولُ الحرسُ السّيطرةُ عَليهِ، فيتقدَّمُ، ويتقدَّمُ الحرسُ فيتأخَّرُ، وَكانَ مُدرِكاً لِمَا فِي قلوبِ خصُومِهِ، ففَتحَ “الْجَاكِت” ليُعلنَ أنَّهُ لَا يرتدِي قَميصاً واقياً، وبفتحةِ الصَّدْرِ هذِهِ دخلَ القصرَ الرّئاسيَّ، مَعَ عددٍ قليلٍ هُم فريقُ الحملةِ الانتخابيّةِ لَهُ، لعلَّهُ ساعتَها كانَ يُدرِكُ أنَّهُ فِي حمايةِ الشّعبِ، الّذِي لَمْ يُسقطْ فقطْ، مُبارك، لكنَّهُ أسقطَ حُكمَ المجلسِ العسكريِّ بعْدَ ذلكَ، الّذِي كانَ يطمعُ أنْ يزيدَ، فقدْ أجبرَه الشّعبُ عَلَى أنْ يُغادِرَ غيرَ مأسوفٍ علَيهِ، ليُحدِّدَ موعداً للانْتخاباتِ الرّئاسيّةِ مكرهاً، ويؤدِّي التّحيّةَ العسكريّةَ لرئيسٍ مدنيٍّ خَوفاً وطَمَعاً، لكنَّهُ خرجَ مِنَ الْبابِ ليقفزَ عَلَى الحُكْمِ مِنَ النّافذةِ، بنصوصِ الإعلانِ الدُّستوريِّ المُكمِّلِ.

مَعَ الرّئيسِ وَجْهاً لوجْهٍ:

وَقدْ عانتِ الْبلادُ مِن جراءِ ذلكَ حالةً مِنَ الفوضَى والتّطاوُلِ عَلَى الرّئيسِ، لأنَّ المُتطاوِلينَ كانُوا يُدرِكُونَ أنَّهم يُؤدُّونَ دوراً لصالحِ مَنْ يتقاسمُ مَعَ الرّئيسِ المُنتخَبِ صلاحيّاتِه بقوّةِ الأمرِ الواقعِ، وبعضُهُم دُفِعَ لِهذَا الدّورِ، وبعضُهُم رُبَّما كَلّفَ نفسَهُ بِهِ، تقرُّباً للمجلسِ بالنّوافلِ، وَقدْ كنتُ حاضراً للقاءَينِ كاشفَينِ: الأوّلِ مَعَ الرّئيسِ مَعَ وجودِ المجلسِ العسكريِّ، والثّانِي مَعَ وزيرِ الإعلامِ بعْدَ سقُوطِ الشّراكةِ، كانَا كاشفَينِ عَنْ ذلكَ.

لَقدْ عَقدَ الرّئيسُ لقاءً مَعَ رؤساءِ تحريرِ الصُّحُفِ، ولأنَّ الفريقَ الرّئاسيَّ لَمْ يستعِنْ بأهلِ الاخْتصاصِ فِي “الجماعةِ”، وَهُم بحُكمِ عملِهِم بالخارجِ، وبُعدِهِم عَنْ مِصْرَ، وعدمِ درايتِهِم بالمشهدِ الصّحفيِّ أَوكَلُوا مَهمةَ الدّعوةِ لمُوظّفٍ كبيرٍ فِي المجلسِ الأعلَى للصِّحافةِ – كنّا نعلمُ مُنذُ سنواتٍ طويلةٍ أنَّهُ رجلُ مباحثِ أمنِ الدّولةِ فِي المجلسِ، ومُنذُ أنْ كانَ مُوظّفاً صغِيراً، وقبلَ أنْ يُصبحَ الرّجلَ الأوّلَ فِي الجهازِ الإداريِ بالمجلسِ الأعلَى- هُوَ الدّكتورُ عصام فرج.

وَمِنَ الواضحِ أنَّهُ وَجدَ فِي نصِّ الدّعوةِ، وبدونِ التّفاصيلِ مَا يجعلُهُ يُخلِصُ لمبادئِهِ وانتمائِهِ حتَّى مَعَ سقوطِ دولةِ المباحثِ، فَهلْ كانَ منطقيّاً أنْ يكونَ فِي الصّفِّ الأوّلِ فِي مُواجهةِ الرّئيسِ المدنيِّ المُنتخَبِ، بعْدَ الثّورةِ، الأستاذُ سمير رجب، كاتبُ مُبارك الأوحدُ، كَمَا كَان مُحمّد حَسنين هيكل هُوَ الكاتبَ الأوحدَ فِي عهْدِ عبدِ النّاصر، وكانَ مُوسَى صبْري الكاتبَ المحسوبَ عَلَى السّاداتِ؟!

كاَنَ سمير رجب يرأسُ تحريرَ جريدةِ “العمّال” بعدَ أنْ أُحيلَ للمعاشِ وغادرَ مُؤسّسةَ دارِ التّحريرِ ورئاسةَ تحريرِ جريدةِ “الجُمْهُورية” قبلَ عَامَينِ، وبعدَ التّغييراتِ الصّحفيّةِ الّتي قامَ بِهَا جمال مُبارك فِي فترةِ إدارتِهِ البلادَ بمُساعدةِ والدتِهِ، وأصْدرَ سمير رجب جريدةً خاصّةً هِيَ “24 ساعة” قَبلَ أنْ يرأَسَ تحريرَ جريدةِ الاتّحاد العام لعمّال مِصرَ، وبهذِهِ الصّفةِ جاءَ حاضراً هذَا اللقاءَ، وهُوَ حضورٌ يُمكنُ ألّا تتقبَّلَهُ الجماهيرُ فِي الأجواءِ العاديةِ، لكنْ كنَّا فِي لحظةٍ تاريخيّةٍ غطّتْ عَلَى هذِهِ التّفاصيلِ!

عَندَما جلسْتُ فِي الصّفِّ الأوّلِ، فُوجئتُ بأنَّ مَنْ يجلسُ بجانِبِي هُوَ “سمير رجب” لنكُونَ في مُواجهةٍ مُباشرةٍ مَعَ الرّئيسِ، وَلَا يَفْصِلُ بَينَنَا سِوى مسافةٍ صغيرةٍ تكفِي لمرورِ شخصٍ بمفردِهِ فقدْ كانتِ القاعةُ صغيرةً.

ورُبَّما فُوجِئَ الرّئيسُ بحضورِ سمير رجب، وقدْ يكُونُ فُوجِئَ أكثرَ بطلبِهِ الكلمةَ، فَاسْتغلَّ الموقفَ، ليلتفَّ علَى هذِهِ المُفاجأةِ غيرِ المُواتيةِ، فقدْ أعطاهُ الكلمةَ وَهُوَ يقُولُ: “الأُسْتاذْ سميرْ رجبْ؟. رَجُلْ كُلْ العُصُورْ؟. تفضّلْ”، وضجّتِ الْقاعةُ بالضِّحكِ لهَذِهِ اللفتةِ الذّكيّةِ.

لقدْ وقفتْ فِي اللقاءِ الكاتبةُ نَوال مُصطَفى رئيسُ تحريرِ “كتاب اليوم”، الّذِي يصدُرُ عَنْ مُؤسّسةِ “أخبار اليوم” الصّحفيّةِ، وهِيَ تتحدّثُ عَنْ أنَّ المرأةَ المِصْريّةَ خائفةٌ مِنْ وجودِ رئيسٍ ينتمِي للإخوانِ المُسلمينَ، وأنَّها تطلبُ الأمانَ لَهَا. وكانتْ لغةً رقيقةً وودُودَةً، تطلبُ القُرْبَ، وتسْعَى لأنْ تكُونَ “فِي الصّورةِ” فِي هذِهِ المرحلةِ، وكانتْ درجةُ اسْتقبالِ الإشاراتِ لدَى القومِ مُعطّلةً وَلَا تعملُ، فخَسِرُوا كثيرينَ بذلكَ، بعْدَ أنْ صارُوا يملكُونَ المنْحَ والمنْعَ، ولَا يَنْسَونَ أنْ يُعطُوا لهذِا التّعطُّلِ فِي الحواسِّ بُعْداً دينيّاً، فكَمَا أنَّ طالبَ الولايةِ لَا يُولَّاها، فطالِبُ منصبِ رئيسِ التّحريرِ لَا يُعطى لَهُ، وطالبُ الوزارةِ لَا يُستَوزَرُ، وطالبُ شربةِ ماءٍ لَا يُسقَى!

كانَ الرّئيسُ مُوفّقاً فِي الردِّ؛ فالرّئيسُ المُنتخَبُ الّذِي جاءَ بإرادةِ النّاسِ لا يُعطي الأمانَ لأحدٍ، فَهُوَ مَنْ يطلبُ الأمانَ مِنْ شعبِهِ الّذِي انتخبَهُ، ومِصرُ أكبرُ مِنْ أيِّ جماعةٍ أَو حزبٍ أَو تنظيمٍ، وكبيرةٌ عَلَى أيِّ أحدٍ – ولَو كانَ الرّئيسَ- أنْ يفرضَ عَلَى المرأةِ المِصريّةِ أنْ ترتدِيَ الحجابَ، أو يفرضَ سلوكاً مُعيّناً.

وهُنَا طلبَ مَجدِي الجلّاد الكلمةَ، وكانَ يرأَسُ تحريرَ جريدةِ “المِصري اليوم” وأعْطَاهَا لَهُ الرّئيسُ، وهُو يسبقُ اسمَهُ بلقبِ الأُسْتاذِ، “الأُستاذْ مَجْدِي الجلّاد تفضّلْ”، مَعَ لفتةٍ إنسانيّةٍ بأنَّهُم “بَلَدِيّاتْ”، لأنَّهُما مِنْ مُحافظةٍ واحدةٍ هِيَ مُحافظةُ الشّرقيّةِ.

وتحوّلَ الأستاذُ مَجدِي الجلّاد ابنُ مُحافظةِ الشّرقيّةِ إلَى خطيبٍ، مُتجاوزاً حدودَ اللياقةِ، وَهُوَ يُشيرُ إلَى الرّئيسِ بيدِهِ، وبإصْبعِهِ، ويقُولُ لَهُ تعقيباً عَلَى كلامِ “نَوال مُصطَفى”: “أَنَا لَا أَخافْ مِنك. أَنتَ سُلْطةْ وأَنَا سُلْطةْ. أَنتَ الرّئيسُ وأنَا الصِّحافةُ والصِحافةُ سُلطةْ، وأَنَا لَا أطلبُ مِنكَ الأمانْ”.

دونَ أنْ يَنْسُبَ هذَا الإنجازَ وَلَوْ للثّورةِ، الّتِي جعلتْهُ يُخاطِبُ رئيسَ الدّولةِ بهذِهِ النّديّةِ، والّذِي كانَ هدوؤُهُ وتواضعُهُ سبباً فِي تجاوزِ هذَا الاشْتباكِ غيرِ المُبرّرِ. ومَجدِي لمْ يكُنْ يَوماً مِنَ الصّحفيّينَ الصّقُورِ، لكنَّهُ كانَ يُدرِكُ أنَّ مَنْ أمامَهُ ليسَ هُوَ الحاكمَ الوحيدَ، وليسَ هُوَ الطّرفَ الأَقْوَى فِي مُعادلةِ الحُكمِ.

أزمةُ عبدِ الحليم قِنديل:

وَطلبَ خَالد صَلاح الكلمةَ، ثُمَّ مُصطَفَى بَكْرِي، وإنْ كانَا أقلَّ عصبيةً، إلَّا أنَّ اللهْجةَ كانتْ تَشِي بأنَّهم يُرسلُونَ رسائلَ للطّرفِ الأَقْوَى، فلَمْ يكُنِ الرّئيسُ يعْنيهم كثيراً، وظلَّ خَالد صَلاح ومجْدِي الجلّاد يتبادلانِ طلبَ الكلمةِ، فيُمنحَانِها: “الأُسْتَاذ مَجدِي”، “الأُسْتاذ خالد”، لَمْ يكُنْ مُبارك يخاطبُ أحداً بإضافةِ الألقابِ، لكنَّ مُحمّد مُرْسِي رئيسٌ مُختلفٌ، إنَّهُ واحدٌ مِنَ الشّعبِ، ويحملُ سماتِ النّاسِ الطّيّبينَ فِيهِ، ومِن خلفِهِ “الثّعالبُ” بحسبِ وصفِ الشّيخِ حَازِم أبو إسْماعيل، ويجْلسُ فِي حضرةِ صحفيّينَ مُعظمُهم مِنَ الثّورةِ المُضادّةِ، وظلَّ عبدُ الحليم قِنديل يطلبُ الكلمةَ فلَا يُعطيهَا لَهُ الرّئيسُ، هَلْ كانَ لَا يراهُ؟!

لَقدْ كانَ فِي الصّفِّ الثّالثِ، والقاعةُ – كَمَا قلْتُ- صَغيرةٌ، ثُمَّ إنَّ الرّئيسَ عَندَمَا أنْهَى اللقاءَ لمْ ينسَ أنْ يُشيرَ لَهُ أنَّهُ لَمْ يُعطِهَا لَهُ عامداً مُتعمّداً: “لقدْ طلبتَ الكلمةَ أكثرَ مِنْ مرّةْ يَا دُكتورْ عَبْد الحليم.. إنْ شاءَ الله المَرّةْ القادمةْ”!

وردَّ عبدُ الحليم ساخراً: “إنْ كانَ فِيهَا مَرّةْ ثانيةْ”!

وَلعلَّ هذَا التّجاهُلَ أَوغَرَ صدْرَهُ، وعبدُ الحليم يحملُ كَمّيّةً مِنَ الغُرورِ بوزنِ جسمِهِ النّحيلِ وتزيدُ، لاسيّما فِي لحظاتِ الانْتِصارِ، وقدْ كانَ ينظرُ لنفسِهِ أنَّهُ انتصرَ عَلَى مُبارك بالثّورةِ، ورُبَّما كانتْ تُحدِّثُهُ نفسُهُ بأنّهُ هُوَ مُفجِّرُهَا، ولشخصيّتِهِ هذِهِ فَلَا بدَّ أنْ يكُونَ زادَهُ غُروراً المُعاملةُ المُتميّزةُ فِي ميدانِ التّحريرِ فِي أيّامِ الثّورةِ، لقدْ كانَ الشّبابُ فِي الميدانِ يبدُو ليسَ مُطّلِعاً علَى تفاصيلِ الحياةِ السّياسيّةِ قَبْلَ الثّورةِ بالشّكلِ الكافِي، فلَمْ يكُونُوا يعرِفُونَ كثيرينَ مِمّنْ كانُوا يُمثّلُونَ المُعارضةَ الحقيقيّةَ لهذَا النّظامِ فِي هذِهِ الفترةِ، فقدْ كنَّا جميعاً يُطلبُ مِنَّا الخضوعُ للتّفتيشِ فِي مداخلِ الميدان، ومِنْ شبابٍ كانَ مُعظمُهم مِنَ الإخوانِ. وفِي أيّامِ الثّورةِ الأُولَى رفعَ البعضُ المُناضِلَ المعرُوفَ كَمال خَليل للمرّةِ الأُولَى والأخيرةِ عَلَى الأعْناقِ، ومَا أنْ بدأَ فِي الهُتافِ، كَمَا هِيَ العادةُ عَلَى مدَى السّنواتِ الماضيةِ، حتَّى صرخَ أحدُ الشّبابِ وهُوَ يقُولُ هذَا الرّجلُ العجوزُ جاءَ ليسْرِقَ الثّورةَ، فأنْزلُوهُ ولَمْ يكرّرْهَا.

كانَ عبدُ الحليم قِنديل يلقَى مُعاملةً مُختلفةً، فالشّبابُ يستقبلُونَهُ بالتّرحيبِ، ولَا يخضعُ للتّفتيشِ مثلَ مَنْ قدْ يكونُونَ مَعَهُ مِمّنْ لَهُم قدمُ صدْقٍ فِي مُعارضةِ مُبارك وَنظامِهِ، ومَعَ شخصيّةِ عبدِ الحليم المُتورّمةِ بالفِطْرةِ، لَابدَّ أنْ يُؤثّرَ علَيهِ الاستقبالُ، فعَندَما لَا يُعطِيهِ مُحمّد مُرْسِي الكلمةَ، ويُعطِيْهَا لَمنْ هُمْ يُحسبُونَ فِي الوَسطِ الصّحفيِّ عَلَى الأمنِ، وهُوَ الثّورةُ والثورةُ هُوَ، فلابدَّ مِنْ أنَ تكُونَ القَطِيعَةُ.

ذَهبَ عبدُ الحليم قِنديل إلَى آخرِ مدَى فِي الهجُومِ عَلَى الرّئيسِ، ولمْ تهتمَّ الرّئاسةُ بالتواصُلِ معَهُ، ولمْ يتكرّرْ لقاءُ رؤساءِ التّحريرِ، فقدْ كانَ يَدْعُونَ صحفيّينَ وإعلاميّينَ بعينِهِم للقاءِ الرّئيسِ، لَمْ أكُنْ مِنْ بَينِهِم، وليسَ مِنْ بَينِهِم أحدٌ محسوبٌ عَلَى الثّورةِ، أَو عَلَى المُعارضةِ فِي عهدِ مُبارك، رُبَّما وُجِّهتِ الدّعوةُ مرّةً واحدةً للدّكتورِ علاء صادق فِي شَهْرِ أكتوبر، والّذِي كَانَ قدْ تمَّ وقفُ بَرنَامجِهِ التّلفزيونيِّ بقرارٍ مِنْ وزيرِ الدّاخليّةِ قَبلَ الثّورةِ، ثُمّ إنَّهُ كانَ مُنحازاً للدّكتورِ مُحمّد مُرْسِي مِنْ خلالِ تغريداتِهِ.

عبد الحليم قنديل (يمين) خالد صلاح و مجدي الجلاد و سمير رجب
مَعَ وزيرِ الإعْلامِ:

وإذَا كانَ مَجدِي الجلّاد اسْتأْسَدَ علَى الرّئيسِ، فَبعْدَ هذَا بشهورٍ تحوّلَ إلَى نَعامةٍ أمامَ وزيرِ الإعلامِ الأسْتاذِ صَلاح عبد المقصود، وكانَ هذَا التّحوُّلُ مردُّهُ إلَى أنَّه لَمْ تعُدْ هُناكَ شراكةٌ فِي الحُكمِ، لقَدِ انْتهتِ الشّراكةُ بعزلِ المُشير طَنْطَاوِي.

كُنتُ قدْ تلقّيتُ دعوةً مِنَ الوزيرِ بصفتِي رئيسَ تحريرٍ جريدةِ “الأحرار”، مَعَ آخرينَ مِنَ الصّحفييّنَ أكثرُهُم مِنْ رؤساءِ التّحريرِ، وذلكَ للإفطارِ فِي شهرِ رَمَضَانَ بأحدِ الفنادقِ!

وبعْدَ أنِ انْتَهَينَا مِنْ إفطارِنَا بدأَ الكَلامُ.

أخذْتُ الكلمةَ، وكانتْ قناةُ “الفَرَاعِين” لِصَاحبِهَا توفيق عُكاشة، أُغلقتْ أَو أنَّ هُناكَ تهديداً بإغْلاقِهَا، وقلتُ إنّني ضدَّ إغلاقِ القنواتِ التّلفزيونيّةِ بالطّريقِ الإداريِّ، ولَابدَّ مِنْ اللجوءِ للقضاءِ لمُواجهةِ أيِّ خُروجٍ علَى قيمِ المهنةِ.

وعلَّقَ وزيرُ الإعلامِ بأنَّ القضاءَ حبالُهُ طويلةٌ.

وكانَ ردِّي حتَّى لَوِ انْتظرْنَا وقْتاً طويلاً فهذَا أفضلُ مِنْ أنْ تُغْلقَ فِي مِصْرَ وسائلُ الإعلامِ بعْدَ الثّورةِ بالطّريقِ الإداريِّ، وَهُوَ مَا وقفْنَا ضدَّهُ فِي العهدِ البائدِ!

ولمْ يُعلِّقْ عليَّ الوزيرُ، ولكنْ جاءَ الردُّ مِنْ حيثُ لَا أحْتسبُ، لقدْ أمسكَ مَجدِي الجلّاد بـ”المايك” مُزايِداً عليَّ، وهُوَ يقُولُ “إنَّهُ مَعَ الوزيرِ فِي كلِّ قرارٍ يتّخذُهُ، ومَعَ كلِّ إجراءٍ يقُومُ بِهِ، وأنَّنَا لَا بدَّ أنْ نقفَ مَعَ تجرِبتِهِ فِي الوزارةِ بكُلِّ قوةٍ، لأنَّهُ مِنّا ونحنُ مِنهُ، وأنَّهُ لَا يَنْسَى لهُ أنَّهُ عندَمَا كانَ فِي النِّقابةِ (عضواً بالمجلس، ثمَّ وكيلاً، ثمّ قائماً بأعمالِ النّقيبِ) كانَ لَا يُميّزُ فِي عطائِهِ بينَ صحفيٍّ إخوانيٍّ، وصحفيٍّ غيرِ إخوانيٍّ!

وَكُنتُ فِي ذهولٍ لهذِا الأداءِ، لأنَّنا فِي النّهايةِ مجمُوعةٌ مِنَ الزّملاءِ نتحدّثُ بكلامٍ هادئٍ لَا يحتاجُ لهذِهِ العصبيّةِ ولاسْتدعاءِ طبقاتِ صَوتِ الخَطيبِ، وكَأنَّنَا فِي ساحةِ معركةٍ حاميةِ الْوَطِيسِ، مَا تسبّبَ فِي إحْراجِي، فكانَ كلامُهُ يبدُو أنَّهُ إسقاطٌ عليَّ، وكأنَّي أَنَا مَنْ لَا يُريدُ الانحيازَ لتجرِبةِ زميلٍ فِي الوزارةِ، وأنّنِي لَا أَحْمدُ للنّقيبِ تجرِبتَهُ فِي النِّقابةِ، وأنِّني خَصمٌ فِي معركةٍ، فهَلْ اسْتمعَ للعِبارةِ الّتِي قَالَها الوزيرُ عندَ استقبالِي بأنّني أهاجمُهُ فِي كتاباتِي، والّتي لا أعرفُ إنْ كانَ جادّاً فيها أمْ مازحاً؟ لاسيّما أنّ جمال عبد الرحيم عضوَ مجلسِ نِقابةِ الصّحفيّينَ ورئيسَ تحريرِ جريدةِ “الجمهوريّة” وقتئِذٍ، علّقَ مازحاً أيضاً بأنّنا بعد الإفطارِ لابدَّ أنْ “نَجْلِسْ قَعْدَةْ عَرَبْ وَنَأْتِي لَكْ بحقّكْ مِنهُ”؟!

فِفِي الحقيقةِ أنّنِي لمْ أكُنْ أهاجمُهُ، فقطْ وجّهتُ لَهُ النّصحَ فِي الزّاويةِ الّتي أكتبُهَا كلَّ أسبوعِ بجريدةِ “القُدْس العربي” وتهتمُّ بالنّقدِ التّلفزيونيِّ، بألّا يُبقِيَ علَى قياداتٍ بعينِها فِي مَبْنَى الإذاعةِ والتّلفزيونِ “ماسبيرو”؛ لأنَّها تنتمِي للدّولةِ العميقةِ، فَلمَّا لمْ يستمعْ للنّصيحةِ سَكتُّ يَأْساً.

نظرةُ مَجدِي الجلّاد اختلفتْ بطبيعةِ الحالِ بعْدَ 30 يونيو، وكتبَ مقالاً فِي جريدةِ “الوطن” الّتِي كانَ يترأسُ تحْريرَهَا ضدَّ “صَلاح عبد المقصود”، ينفِي فيه ِعَنْهُ الصّفةَ الصّحفيّةَ، ويُؤكِّدُ أنَّ خِدماتِهِ كانتْ تذهبُ للإخوانِ فِي النِّقابةِ.

وَليسَ هَذَا موضُوعَنَا، فَمَنْ قالَ لرئيسِ الدّولةِ وَهُوَ يلوِّحُ لَهُ بسبّابتِهِ أَنَا لَا أخافُ مِنكَ، هُوَ مَنْ وَقفَ “بُودِي جَاردْ” لحسابِ وزيرٍ، فالرّئيسُ كانَ هُناكَ مَنْ يشاركُهُ فِي الحُكمِ، والوزيرُ كَانَ لقاؤُنا بِهِ فِي مَرحلةِ سقوطِ هذِهِ الشّراكةِ.

لمْ يَسْتَسْلِمْ:

حرَصُ الرّئيسُ مِنَ الْيومِ الأوّلِ أنْ يكُونَ بمُستوَى أنْ يضَعَ النّاسُ فيه ثِقَتَهُم، فلَمْ يَسْتسلِمْ وَهُوَ الّذِي عَيّنَ لَهُ طنطاوي قائداً للحرسِ، وَمسؤولاً عَنِ الشّؤونِ الماليّةِ، وكأنَّ القصرَ هُوَ أحدُ الأبنيةِ التّابعةِ لوزارةِ الدّفاعِ، وأنّ الرّئاسةَ ليستْ أكثرَ مِنْ قطاعٍ مُلحقٍ بالوزارةِ.

كانتِ الفترةُ الّتِي تولَّى فِيهَا الرّئيسُ مهامَّ منصبِهِ، هِيَ فترةُ الاحْتفَالَاتِ بالخرّيجينَ مِنَ الكُلّياتِ العسكريّةِ، ولمْ يتركِ الرّئيسُ الأمرَ لوزيرِ الدّفاعِ ليقُومَ بالمَهمّةِ، لكنَّهُ ذهبَ إِليهِم وشهدَ تخرُّجَ الدُّفعاتِ فِي هذِهِ الكُلّيّاتِ، وقامَ بتقليدِ أوائلِ الدُّفعتَينِ نوطَ الواجبِ العسكريِّ وصدّقَ عَلَى تعيينِ الضبّاطِ، وحَضرَ العرُوضَ، وقامَ الخرّيجُونَ بأداءِ التّحيّةِ العسكريّةِ أمامَهُ وأقسمُوا عَلَى الإخلاصِ لرئيسِ الجُمهُوريّةِ.

لَمْ تكُنِ الْأمورُ تسيرُ علَى مَا يرامُ، فَفِي تقديمِهِ فِي احتفالِ تخرُّج دُفعتَينِ فِي “القوّاتِ البحريّةِ والدّفاعِ الجويِّ”، وبحضورِ المُشيرِ مُحمّد حُسين طَنطَاوِي تمَّ تقديمُ الدّكتورِ مُحمّد مُرسِي بصفتِهِ رئيسَ الجُمهُوريّةِ، ولَمْ يُضِيفُوا إِليهَا القائدَ الأَعلَى للقوّاتِ المُسلّحةِ، فِي موقفٍ لَا تخْطِئُ العينُ دلالتَهُ.

فِي الْيومِ التّالِي لهَذَا التّصرُّفِ كانَ الرّئيسُ يُصدِرُ قراراً شجَاعاً بإلغاءِ قرارِ المُشيرِ طَنطَاوِي بحلِّ البرلمانِ، وعقْدِ جلساتِهِ ومُمارسةِ اختصاصاتِهِ المنصُوصِ عَلَيهَا فِي المادّةِ 33 مِنَ الإعلانِ الدُّستوريِّ الصّادرِ بتاريخِ 30 مارس 2011، وإجراءِ انْتخاباتٍ مُبكّرةٍ لمجلسِ الشّعبِ خلالَ 60 يَوماً مِنْ تاريخِ مُوافقةِ الشّعبِ عَلَى الدُّستورِ الجديدِ والانْتهاءِ مِنْ قانونِ مجلسِ الشّعْبِ.

وَشَجاعةُ القرارِ تكْمنُ فِي دلالتِهِ، لأنَّهُ سحَبَ سُلطةَ التّشريعِ مِنَ المجلسِ العسكريِّ، وأعادَها مرةً أُخرَى للبرلمانِ، ومِنْ هُنَا يُسقِطُ الشّراكةَ فِي الحُكمِ، ويُعيدُ المجلسَ العسكريَّ إلَى اختصاصِه الطبيعيِّ قبْلَ ثورةِ يناير!

الرئيس الراحل محمد مرسي (وسط) والمشير محمد حسين طنطاوي (يسار) ورئيس الأركان الأسبق سامي عنان

لكنَّ المحكمةَ الدُّستوريةَ العُليا كانَ لهَا تحرّكُها الغريبُ، فقدْ تجاوزتْ مِنْ قبلُ اخْتصَاصَها، واغْتصبَتْ سُلطةَ محكمةِ الموضوعِ، عَندَما لَمْ تكتفِ بإظهارِ العوارِ الدُّستوريِّ فِي قانونِ الانْتخاباتِ البرلمانيّةِ، إنَّما قضَتْ بحلِّ البرلمانِ مُخالِفَةً أحكاماً سابقةً لَهَا، ليكُونَ قرارُ الحاكمِ العسكريِّ بعْدَ ذلكَ كاشفاً وليسَ مُنشِئاً. وهُوَ الحُكمُ الّذِي نُسِبَ لرئيسِ الوزراءِ كمال الجنزوري قولُهُ إنّه فِي درجِ مكتبِهِ مِنْ قَبلِ أنْ يصدُرَ!

فهذِهِ المحكمةُ نشرتِ الأخبارُ أنَّ قُضاتِها فِي غضبٍ مِنْ صُدورِ قرارِ الرّئيسِ، فَمَا هُو المبرّرُ لغضبِ القُضاةِ، وقدْ عَرَفَتْ مِصْرُ تعطيلَ أحكامِ القضاءِ، والتّطاوُلَ عَلَى حُجيّتِهَا ووقْفَها مِنْ مَحاكمَ أدْنى وغيرِ مُختصّةٍ، وهُوَ مَا اشْتُهِرَ بِهِ عصرُ مُبارك، وكانَ سمةً مِنْ سماتِهِ، فلمْ تغضبِ الْمحاكمُ، ولمْ يجدِ القضاءُ فِي هذَا مَا يخلُّ بالهيبةِ المُفترضةِ لهُم، أَو مَا يدفعُهُم لأنْ ينفِرُوا خفافاً وينفِرُوا جميعاً، كَمَا حدثَ معَ هذَا القرارِ، حدَّ أنَّ الجمعيةَ العموميّةَ للمحكمةِ تعْقِدُ اجتماعاً لبحثِ الموقفِ وليسَ فقطِ الدائرةُ الّتي أصدرتِ الحُكمَ. وفِي نقاشٍ لِي مَعَ رئيسٍ لمحكمةِ القضاءِ الإداريِّ فِي عهْدِ مُبارك، وأَنَا أُحرِّضُهُ أنْ ينتفِضُوا احتجَاجاً عَلَى إهدارِ النّظامِ لحُجيّةِ أحكامِهِم، قالَ القاضِي الكبيرُ: دورُ القاضِي أنْ يحكُمَ بالقانونِ وليسَ دورَهُ تنفيذُ الأحكامِ، هذَا أمرٌ خارجَ اخْتصاصِنَا المعقودِ لَنَا قانُوناً.

وللمرّةِ الثّالثةِ تخرُجُ المحكمةُ عَنْ حدودِ اخْتصاصِها بأنْ قضتْ بإلغاءِ قرارِ الرّئيسِ بعْدَ يومَينِ مِنْ صدُورِهِ، والمحكمةُ الدّستوريّةُ العُلْيَا ليسَ دورَهَا التعرُّضُ للقراراتِ الإداريّةِ، فضلاً عن أنّ قرارَ الرّئيسِ هُنَا يدخلُ ضمنَ أعمالِ السّيادةِ، الّذي لَا يجُوزُ للقضاءِ التعرُّضُ لَهُ، ولَو بشطرِ حُكمٍ.

المحكمة الدستورية العليا في مصر
الإخوانُ خيَّبُوا أملَ الرّئيسِ:

ولمْ تكُنِ المحكمةُ وحدَهَا الّتِي خيَّبتْ آمالَ الرّئيسِ مُحمّد مُرْسِي بهذِا الحُكمِ، فقدْ كانتْ خيبتُهُ فِي جماعتِهِ عظيمةً، ورُبَّما عندَمَا وصلَهُ نبأُ حُكْمِ المحكمةِ الدُّستوريّةِ العُلْيا لَمْ يشغلْهُ كثيراً.

لقدْ أعادَ الدّكتورُ مُحمّد مُرْسِي مجلسَ الشّعبِ بقرارٍ شجاعٍ، فإذَا بالدّكتورِ سعْد الْكَتاتْنِي يعقدُ جلسةً واحدةً لمَهمةٍ واحدةٍ، هِيَ رفعُ جلساتِهِ لأجلٍ غيرِ مُسمَّى.

يقُولُ شهُودُ عِيانٍ، إنّهُ فِي هِذهِ اللحظةِ تملّكَهُ الغضبُ، وَهُو يقُولُ أعدْتُ لَهُم البرلمانَ لِكَي يستردَّ صلاحيّاتِهِ وللعملِ، فَإذَا بِهِم يُجامِلُونَ المجلسَ العسكريَّ عَلَى حِسَابِي ويعلِّقُونَ أعمالَهُ.. لمَاذَا أعدتُهُ إذنْ؟ هلْ أعدتُهُ مِنْ أجلِ هذِهِ الجلسةِ؟!

كَانَ مِنَ الواضحِ أنَّ قرارَ الرّئيسِ بعودةِ المجلسِ لَمْ يتمَّ بالتّنسيقِ مَعَ الجماعةِ، الّتي رُبَّما وجدتْ مِنْ الأسْلَمِ ألّا تدخُلَ فِي صدامٍ مُبكّرٍ مَعَ المجلسِ العسكريِّ، فَجامَلَتِ الرّئيسَ بهذِهِ الجلسةِ الّتِي قَالَ الدّكتورُ سعْد الكَتَاتْنِي إنَّها جلسةُ إجراءاتٍ بدونِ جدولِ أعمالٍ، ثُمّ عُلِّقتْ أعمالُهُ.

وَكَانَ اللافتُ فِي هذِهِ الجلسةِ أنَّ رئيسَ المجلسِ قَرأَ بياناً حَصلَ عَلَى مُوافقةٍ عَليهِ، ينصُّ عَلَى أنَّهُمُ اجْتمعُوا بِناءً عَلَى حُكمِ المحكمةِ الدُّستوريّةِ، وأنَّهُم يُحيلُونَ أمرَ المجلسِ لجهةِ الاخْتصاصِ وَهَيَ محكمةُ النّقضِ، ليرفعَ الجلسةَ إلَى أجلٍ غيرِ منظُورٍ، وسْطَ تصفيقٍ هائلٍ مِنَ النّوابِ، الّذينَ رُبَّما سلَّمُوا بأنَّ القيادةَ تعملُ مَا فِيهِ الخيرُ للأُمَّةِ!

لَمْ يقُلْ الدّكتورُ الكَتَاتْنِي إنَّ الاجتماعَ تمَّ بِناءً عَلَى قرارِ الرّئيسِ بعودةِ المجلسِ، ولكنْ أعادَ سببَ الاجتماعِ إلَى حُكمِ المحكمةِ الدُّستوريّةِ، مَعَ أنَّ الحُكمَ قالَ بحلِّ المجلسِ بصَرِيحِ العِبارةِ.

وليسَ هُناكَ اخْتصاصٌ منعقدٌ لمحكمةِ النّقضِ للنّظرِ فِي قضيّةِ شرعيّةِ المجلسِ، فَهِيَ تنظرُ الطّعُونَ فِي النّتائجِ مِنْ مُرشّحينَ وفِي خلالِ فترةٍ زمنيّةٍ مُحدّدةٍ، وَمَعَ ذلكَ أحَالَ الكَتَاتْني أمرَ المجلسِ بمُوافقةِ الأعضاءِ إلَيهَا.

ولَمْ تكدْ تمرُّ سِوَى أيّامٍ قليلةٍ علَى هذَهِ الإحالةِ، حتَّى أصدرتْ محكمةُ النّقضِ حُكمَهَا بعدمِ اخْتصاصِها بنظرِ الموضوعِ، وبعْدَ أربعةِ أيّامٍ مِنْ حُكمِ المحكمةِ الدُّستوريّةِ بإلغاءِ قرارِ الرّئيسِ مُحمّد مُرْسِي بعودةِ مجلسِ الشّعبِ مِنْ جديدٍ.

لمْ تكُنْ لَدَى جماعةِ الإخوانِ رغبةٌ فِي الصّدامِ مَعَ المجلسِ العسكريِّ، فكانَ قرارُ البرلمانِ بعرضِ الأمرِ عَلَى محكمةٍ غيرِ مُختصّةٍ، لإعطاءِ مبرّرٍ بتعليقِ انعقادِ المجلسِ، لكنَّ الرّئيسَ لَمْ يكُنْ فِي نيتِهِ الاسْتسلامُ.

وأسرَّها الرَّئيسُ فِي نفسِهِ، فالحروبُ سجالٌ، وقدْ خسِرَ هذِهِ الخُطوةَ، لكنَّ القصّةَ لَمْ تتمَّ فصولًا.

لمْ يستَسلمِ الدّكتورُ مُحمّد مُرْسِي لعمليةِ الشّراكةِ فِي الحُكمِ وفِي التسلُّطِ عَلَى اخْتصاصاتِهِ، وَكانَتِ الأجواءُ مُعاديةً، فالقوَى السياسيّةُ اسْتنكفتْ قرارَ الرَّئيسِ بعودةِ المجلسِ، وطالبتْهُ باحْترامِ أحْكامِ القضاءِ، دونَ أنْ تمُدَّ الحبلَ علَى استقامتِهِ لتقُولَ وهلْ كانتْ أحكامُ القضاءِ مُتفقةً مَعَ صحيحِ القانونِ وبعيدةً عنِ الهوَى السّياسيِّ؟ ودونَ أنْ تطلبَ مِنَ المجلسِ العسكريِّ صراحةً أنْ يُغادِرَ السُّلطةَ غيرَ مُستأنسٍ لحديثٍ، عَلَى النَّحْوِ الّذِي نُشِرَ فِي “المصري اليوم” منسوباً لخمسةِ أحزابٍ، وطرَحَ حَمدين صباحي مُبادرةً فضفاضةً لمَخرجٍ لمَا وصفَهُ بمُبادرةٍ “لإنهاءِ الصّراعِ بَينَ السُّلطاتِ، طالبَ فِيهَا الرّئيسَ بالالتزامِ بحُكمِ المحكمةِ الدستوريّةِ العُلْيا بإلغاءِ القرارِ الجُمهوريِّ بعودةِ مجلسِ الشّعبِ، وتضمّنتْ هذِهِ المبادرةُ أنْ يُعلنَ مُرْسِي احْترَامَهُ لأحكامِ القضاءِ (!) والتزامَهُ بسيادةِ القانونِ والالتزامَ بأحكامِ المحكمةِ الدُّستوريّةِ (!) وإعادةَ تشكيلِ  الجمعيّةِ بتوافقٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ يضمنُ تمثيلَ جميعِ قوَى المُجتمعِ وتياراتِهِ السياسيّةِ بشكلٍ مُتوازنٍ دونَ هيمنةِ أيِّ تيارٍ أَو إقْصاءِ تيارٍ آخرَ(!). وعَلَى استحياءٍ عَرضَ أنْ تُنقلَ سُلطةَ التّشريعِ إلَى الجمعيّةِ التأسيسيّةِ (!)

وماذَا قَبلَ تشكيلِ الجمعيّةِ بتوافقٍ وطنيٍّ؟، وَمَنْ يملِكُ سُلطةَ تشكيلِهَا الآنَ، “وعُقدةُ النِّكاحِ” بالإعلانِ الدُّستوريِّ المُكمِّلِ، صارتْ بيدِ المجلسِ العسكريِّ، فَهَلْ كانَ يدرِكُ هذَا فعْلاً؟ وبحلِّ الجمعيّةِ التّأسيسيّةِ القائمةِ، فقدْ يتعذَّرُ التّوافُقُ علَى تشكيلِهَا مُستقبلاً؟!

ومَهمَا يكُنْ فقدْ كانَ حَمدين فِي هذِهِ الفترةِ وإلَى 30 يونيو، يعيشُ أحْلامَ الرّئاسةِ، ولَا ينْسَى أنَّ ترتيبَهُ فِي الجولةِ الأُولَى كانَ الثّالثَ، ولدَيهِ اعتقادٌ أنَّ أيَّ أزمةٍ تُؤدِّي إلَى إجراءِ الانْتخاباتِ مِنْ جديدٍ مِنْ شأنِهِ أنْ يرتفعَ ترتيبُهُ إلَى المركزِ الأوّلِ أَو الثّانِي.

وفِي هذِهِ الأجواءِ أجرتْ جريدةُ “المِصري اليوم” حوَاراً مُطوّلاً مَعَهُ كانَ عنوانُهُ: “أَنَا أفضلُ مِنْ مُرْسِي.. وَأَنَا رئيسُ مِصْرَ القادمُ”، ويومئِذٍ لَا أدْرِي لَماذَا اندفَعَتْ الآيةُ الكريمةُ إلَى سطحِ ذاكرَتِي بدونِ أنْ يكْونَ هُناكَ سياقٌ موضوعيٌّ لهَذَا الحضورِ لَهَا: “قَالَ أَنَا خَيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ”.

كانَ حَمدين صباحي حالةً نفسيّةً فِي هذِهِ الفترةِ، أكثرَ مِنهُ مُنافساً سياسيّاً. كانَ لَدَيهِ طموحٌ فِي أنْ يكُونَ رئيساً لكنَّهُ يفتقدُ إِلَى مَا ينظّمُ هذَا الطّموحَ، ولمْ يقتلْ هذَا الطّموحَ سِوَى عبدِ الفتّاح السّيسي!

كانَ الرّئيسُ يفكِّرُ فِي مَخرجٍ موضوعيٍّ، يُنهِي بِهِ هذِهِ الشّراكةَ، وقدْ خسِرَ معركةَ عودةِ مجلسِ الشّعبِ، وهِيَ جزءٌ مِنْ انشغالِهِ العامِّ بإعادةِ بناءِ مُؤسّساتِ الدّولةِ.

وبدَا مُنفتِحاً عَلَى الجميعِ للبحثِ عَنْ مَخرجٍ، وظهَرَ رجلُ الأجهزةِ الأمنيةِ فِي القصرِ الرئاسيِّ المُستشارُ أحمدُ فؤاد جاد الله، المُستشارُ القانونيُّ للرّئيسِ باختيارِهِ فَلَمْ يكُنْ مفرُوضاً علَيهِ، فِي أحدِ البرامجِ التّلفزيونيّةِ وفَضَحَ مَا يُفكِّرُ فِيهِ الرَّئيسُ فَقَدْ يكُونُ الحلُّ فِي “إعلانٍ دُستوريٍّ” جديدٍ للرّئيسِ، ينتزعُ سُلطةَ التّشريعِ مِنَ المجلسِ العسكريِّ!

واسْتشعرَ المُتحدّثُ الإعلاميُّ فِي الرّئاسةِ الدّكتورُ ياسر علي خطورةَ التّصريحِ فَقَالَ فِي تصريحٍ مُضادٍّ إنَّه لَا يجُوزُ لأحدٍ أنْ يتحدَّثَ باسمِ الرّئاسةِ إلّا المُتحدثَ الإعلاميَّ، لكنَّ ياسر علي أيضاً وآخرَينَ فِي الرّئاسةِ، لَمْ يُطْلِعُوا الرّئيسَ علَى حقيقةِ المذكُورِ، خلالَ فترةِ إقامتِهِ فِي قطرَ، بلْ ومنعُوا طرفَ هذِهِ المُشكلةِ مِنْ أنْ يلتقِيَ بالرّئيسِ عندَ زيارتِهِ ليحكِيَ لَهُ حقيقةَ مُستشارِهِ، مِنْ واقعِ معرفتِهِ بِهِ، مَعَ أنَّ صاحبَ المُشكلةِ هُوَ ابنُ إخوانيٍّ قديمٍ مِنْ الّذِينَ قَدِمُوا للدّوحةِ فِي عهدِ عبدِ النّاصر!

قَفَزَ جاد الله مِنَ المَركبِ، عندَمَا اسْتشْعَرَ أَنَّها غارقةٌ لَا مَحَالةَ، واسْتقالَ مِنُ منصبِهِ بالرّئاسةِ، واسْتضافتْهُ القنواتُ التّلفزيونيّةُ فَهَاجَمَ الرّئيسَ وفريقَهُ الرّئاسيَّ، ونُقلَ عَنِ القومِ فِي الرّئاسةِ أنَّهُ اسْتقالَ بعْدَ أنْ عَلِمَ أنَّهم سيعرضُونَ ملفَّهُ علَى الرّئيسِ!

المستشار محمد فؤاد جاد الله (يمين) والمتحدث الأسبق باسم الرئاسة ياسر علي

وفِي غضونِ ذلكَ، رُبَّما أرادَ المجلسُ العسكريُّ أنْ يجرّبَ قدرتَهُ عَلَى اسْتخدامِ صلاحيّاتِهِ أَو يذكّرَ بِهَا، فأصدرَ خمسةَ قوانينَ دَفعةً واحدةً، مُرتبطةً معظمُهَا بزيادةِ معاشاتِ العسكريّينَ، وتعديلِ بعضِ أحكامِ قانونِ التّقاعدِ والتأمينِ والمعاشاتِ للقوّاتِ المُسلّحةِ، وأرسَلَهَا للدّكتورِ مُحمّد مُرْسِي فقَامَ باعتمادِها!

فهَلْ كانُوا ينتظُرونَ أنْ يتباطَأَ الرّئيسُ فِي عمليّةِ الاعْتمادِ، فيتمَّ تصويرُهُ داخلَ الجيشِ علَى أنّهُ يرفضُ زيادةَ معاشِهِم وإقرارَ العلاواتِ الماليّةِ لَهُم، ويبدُو سوءُ النّيّةِ واضحاً؛ لأنَّ المجلسَ حَكَمَ لمدّةِ سنةٍ ونصفٍ، فَلَمَاذَا لمْ يقُمْ بتعديلِ قانونِ المعاشاتِ، وأجّلَ التّعديلَ حتَّى دُخولِ الرّئيسِ المُنتخَبِ قصرَ الرّئاسةِ بشهرٍ ونصفٍ؟!

واسْتُخدمتْ زيادةُ العِلاوةِ الخاصّةِ بالعسكريّينَ فِي الإيعازِ بأنَّ لَا شيءَ تغيّرَ فِي مِصرَ، فالرّئيسُ المدنيُّ المُنتخَبُ، كانَ أوّلُ قرارٍ اتّخذَهُ هُوَ زيادةَ معاشاتِ العسكريّينَ، ولَمْ ينتبهْ لغيرِهِم!

وَهُوَ نوعٌ مِنَ الْهجُومِ لَا يمكنُ الردُّ عَليهِ، لحساسيةِ الموقفِ، ثُمّ إنّ الرّئاسةَ لَمْ تكُنْ معنيَّةً فِي هذِهِ الفترةِ بالردِّ أَو التّعليقِ أَو التّكذيبِ، وكذلكَ جماعةَ الإخوانِ المُسلمينَ.

الحقيقةَ أنَّ الرّئيسَ وإنْ كَانَ لَمْ يُمانعْ فِي زيادةِ معاشِ العسكريّينَ، إلّا أنَّ القرارَ المُهمَّ الّذِي اتّخذَهُ فِي هذَا اليومِ، هُوَ تعديلُ قانونِ الجامعاتِ، بمَا يسمحُ بأنْ تكُونَ مناصبُ الجامعةِ مِنْ رئيسِ القسمِ وعميدِ الكُلّيةِ وصُولاً لرئيسِ الجامعةِ بالانْتخابِ، وتعديلُ أوضاعِ الأساتذةِ فوقَ سنِّ السّبْعينَ.

وتمَّتْ زيادةُ رواتبِ أساتذةِ الجامعاتِ (1000) جنيهٍ للمُعيدِ، و(1500) جنيهٍ للمدرّسِ المُساعدِ، و(2500) جنيهٍ للمدرّسِ، و(3000) جنيهٍ للأستاذِ المُساعدِ، و(3500) جنيهٍ للأستاذِ.

وتحرَّكَ الشّيخُ حازم أبو إسماعيل وأنصارُهُ ليكونُوا نصيراً للرّئيسِ فكانتِ الدّعوةُ لمليونيّةٍ بميدانِ التّحريرِ، لإلغاءِ الإعلانِ الدُّستوريِّ المُكمِّلِ، وقَالَ الشّيخُ إنَّ “العسْكرَ” جَعَلُوا السّيادة لأنفسهِم بدلاً مِنَ الشّعبِ بإصدارِ هذَا الإعلانِ. وقدْ شاركَ الإخوانُ فِي هذِهِ المليونيّةِ، وانْسحَبَ منَ الدّعوةِ إلَيهَا حزبُ النّورِ.

الداعية والسياسي المصري حازم أبو إسماعيل

وتأْتِي الرّياحُ بمَا لَا تَشتَهِي السّفنُ، فالقضاءُ الإداريُّ وفِي جلسةٍ واحدةٍ أصدرَ عدّةَ أحكامٍ مُرتبطةٍ بالأزماتِ السّياسيّةِ:

فَفِي الدّعاوَى الخاصّةِ ببطلانِ تشكيلِ الجمعيّةِ التّأسيسيّةِ قرّرتِ المحكمةُ نظرَ تلكَ الدّعاوَى لحينِ الفصلِ فِي طلبِ ردِّ هيئةِ المحكمةِ.

وفِي الطّعونِ عَلَى قرارِ الرّئيسِ مُحمّد مُرْسِي بعودةِ البرلمانِ قضتِ المحكمَةُ بعدمِ اختصاصِها بنظرِ الطّعونِ وأحالتْهَا إلَى المحكمةِ الدُّستوريّةِ العُلْيا.

ونأْتِي إلَى “بيتِ القصيدِ” فَفِيمَا يختصُّ بالطُّعونِ عَلَى الإعلانِ الدّستوريِّ فَقَدْ قضَتِ المحكمةُ بعدمِ اختصاصِهَا ولائيّاً بنظرِ خمسةِ طعونِ لإلغاءِ قرارِ المُشيرِ حُسين طَنطَاوِي بإصدارِ الإعلانِ، عَلَى أساسِ أنَّه عَمَلٌ يخرُجُ عَنْ نطاقِ الرّقابةِ القضائيّةِ لأنَّهُ يدخُلُ ضمنَ “أعمالِ السّيادةِ”!

وتقدرُونَ فتضحكُ الأقدارُ.

فإلَى الحلْقةِ السّابعةِ…

لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثانية يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثالثة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الرابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السادسة يرجى الضغط هنا
المصدر : الجزيرة مباشر