الفلبين بلد يحترف صناعة الجمال لمواجهة الفقر

ملكات جمال فلبينيات (رويترز ـ أرشيف)

تفوق شعبية مسابقات ملكات الجمال في الفلبين مباريات كرة القدم والخطابات السياسية، في بلد يعد الثاني في عدد الألقاب العالمية بعد فنزويلا.

تخرج من كل جزيرة وكل بلدية وكل حي متسابقة، ويسود اعتقاد عند الأسر التي تشجع بناتها على أن المشاركة تنقلهم من الفقر وتغيّر حياتهم، وأنهن يمارسن “دورًا شبه سياسي”.

منذ 17 سنة

أجرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية تحقيقًا مطولًا عن ملكات الجمال في الفلبين، وانتقلت إلى منزل صغير في شمالي العاصمة مانيلا، حيث تعيش تشاي نيكول بانغايان (19 عامًا).

تخوض الفتاة ذات العينين اللوزيتين والابتسامة العريضة المسابقات منذ عامين، لإرضاء والديها بشكل أساسي، وتقول للصحيفة “هم من دفعوني للمشاركة، لقد أرادوا أن أكتسب الثقة، وأحبوا رؤيتي على المسرح”، قبل أن تضيف “ربما كان هناك دافع مالي”.

وقالت المرشحة لملكة الجمال إن والديها طلبا من معلمة أن تلقنها كيفية الاستعراض والإجابة عن الأسئلة الصعبة، وتوضح أن الضغط دفعها إلى التوقف “لقد كان الأمر مرهقًا للغاية، التدريب والمسابقات.. أرادت عائلتي أن أفوز بالألقاب لكن التكلفة كانت كبيرة”.

عائلة تشاي ليست الوحيدة المتحمسة للمسابقات في الفلبين، ولفهم حجم الظاهرة تقول لوفيغارو “يكفي ملاحظة حماسة عشرات الآلاف من الأشخاص الذين اجتمعوا معًا لساعات تحت أشعة الشمس لرؤية خصلة شعر من إحدى المتوجات بعد فوزهن.

هوس الألقاب

وأفادت بأن البلد حقق العديد من الألقاب، فقد أحرز 4 ألقاب لملكة جمال الكون، ولقبًا واحدًا لملكة جمال العالم، و6 ألقاب لملكة جمال الأمم، و4 ألقاب لملكة جمال الأرض، وهذا يجعلها ثاني أكثر الدول نجاحًا بعد فنزويلا في أهم أربع مسابقات.

تغذي هذه الانتصارات هوس الفلبينيين بهذه المسابقات “التي تحظى بشعبية أكثر من الرياضة والسياسة”، كما يوضح روبرت ريكوينتينا رئيس قسم المنوعات بصحيفة (مانيلا بولتان) اليومية، الذي أمضى سنوات في تغطية مسابقات الجمال حصريًّا.

وأضاف الصحفي للوفيغارو “كل جزيرة وكل بلدية وكل منطقة لها منافستها، إنها تهم جميع طبقات المجتمع، بما في ذلك العاملات المنزليات”.

تُعد العروض والنتائج موضوع نقاشات ساخنة عبر الإنترنت وفي المنازل وبين الأصدقاء وحتى في المكاتب، وتحقق الصحف والقنوات المحلية قدرًا كبيرًا من الأرباح بعرض تفاصيل حياة المرشحات، لدرجة أن حفل تكريم أول فلبينية تحصل على جائزة نوبل للسلام لم يحظ بالتغطية الإعلامية نتيجة تزامنه مع إحدى مسابقات الجمال في البلاد.

مصنع الجمال

كانت الحكومة الاستعمارية هي التي نظمت أول مسابقة في عام 1908، الكرنفال الأول في الفلبين، بهدف تعزيز اقتصاد مناطق البلاد المختلفة، بحسب خوسيه كابيلي الأستاذ في جامعة الفلبين ديليمان وصاحب مؤلفات عن مسابقة ملكة الجمال.

وأوضح أنه “تمت إضافة مسابقة ملكة الجمال على هامش الحدث، وفي النهاية أصبحت هي الحدث الرئيسي”، لكن في السبعينيات، في ظل حكم فرديناند إيمانويل إدرالين ماركوس، اتخذت المنافسات بعدًا آخر وتطورًا سياسيًّا.

ونظمت الحكومة الفلبينية مسابقة ملكة جمال الكون عام 1974، وجرى الحديث عنها في كل وسائل الإعلام من أجل صرف الانتباه عن المشاكل السياسية والاجتماعية في البلاد.

ورأى السياسيون المحليون في ذلك فرصة، وبدأوا بدعم تنظيم هذه المسابقات في دوائرهم الانتخابية من أجل الحفاظ على صورة “مشرقة” مع الناخبين في المستقبل.

وتابع التقرير أن هذه الانتصارات الدولية العديدة لهذا البلد الملقب بـ”مصنع ملكات الجمال” ليست وليدة الصدفة، فقد سلح نفسه بمعسكرات تدريب حقيقية تشكل ملكات جمال المستقبل، وبرامج تدريب مجاني لمساعدة الفتيات من مستويات اجتماعية متواضعة على تغيير حياتهن وحياة أسرهن.

وأضاف “وهي وصفة مستعارة من فنزويلا، التي تجذب المنافسين بعناية من جميع أنحاء العالم”.

ملكة جمال الأرض 2015، أنجيليا أونج، في حفل افتتاح دورة ألعاب جنوب شرقي آسيا في الفلبين (غيتي)

“فخر الفلبين”

التقت لوفيغارو المسؤول عن البرنامج التدريبي جيري دياز، الذي صرح بأن أعضاء الفريق جميعهم متطوعون “إنهم يفعلون ذلك بدوافع الشغف والشرف والفخر التي نقدمها لبلدنا عندما تفوز ملكة جمال فلبينية”.

“لا شيء متروك للصدفة، ولا شيء طبيعي” وفق دياز، تطول ساعات التدريب في البرنامج على ضبط القوام والمشي على الكعب ذات الـ16 سنتيمترًا طوال اليوم، بالإضافة إلى روتين اللياقة والنظام الغذائي المخصص لكل متبارية.

تتعلم الفتيات كيفية تصفيف شعرهن ووضع مساحيق التجميل، لكن الإجابة عن الأسئلة “تكون هي العقدة الأكثر رعبًا” وفقًا لجيري دياز الذي عرّف نفسه بصفته مدرّبًا لتنمية الشخصية “أنا أساعدهن على تنمية ثقتهن بأنفسهن والثقة في الفوز”.

وكشف للصحيفة الفرنسية عن أحد أسرار مهنته وهو يقول “أهم شيء أن يتطابق ما يقلنه مع تعابير وجوههن، ليكون العرض متناغمًا”.

طريق المجد

تحلم الفلبينيات بأن يصبحن ملكات جمال لأن اللقب يوفر ضمانًا لفرص فريدة، ويوضح الأستاذ الجامعي خوسيه كابيلي “بالنسبة للاتي يرغبن بممارسة مهنة في السينما أو التلفزيون، أو الزواج من رجل مؤثر، أو أن تصبحن سيدات أعمال أو شخصيات سياسية، فإن مسابقة ملكة جمال هي بلا شك أفضل نقطة انطلاق”.

وفي بلد يعيش فيه 1 من كل 5 أشخاص بأقل من 3 يوروهات في اليوم، وفقًا للبنك الدولي، تُعد هذه المسابقات أمل أسرة بأكملها.

إلى جانب “المستقبل المضمون” تتمتع ملكات الجمال بمكانة كبيرة في الفلبين، ويتخذهن العديد من الفتيات الصغيرات نموذجًا للثقة بالنفس، ويتم تقليدهن بشكل كبير.

هذه الهالة واضحة بشكل خاص على الإنترنت، إذ يصل عدد متابعات المتوجات على مواقع التواصل الاجتماعي إلى 13 مليونًا، يأتي التاج بقوة ترويجية غير عادية يتم استثمارها من خلال شراكات إعلانية.

تستخدم بعض الفائزات أسماءهن في أعمال تبرعات لصالح منظمة غير حكومية، وقد تمكنت إحداهن من جمع نحو 45 ألف دولار من التبرعات في غضون أسابيع قليلة، وهو مبلغ كبير في الفلبين.

القوة الوهمية

يمارَس هذا التأثير حتى في المجال السياسي، إذ تتم دعوة الفائزات للقاء أعضاء الحكومة والمشاركة في التجمعات السياسية أو الظهور على ملصقات الحملات الانتخابية.

تؤثر ملكات الجمال في الرأي العام عبر آرائهن مقابل الحصول على أموال لدعم السياسيين، يقول جيري دياز “الكثير من المال”.

وخرجت كاتريونا غراي الفائزة بلقب ملكة جمال الكون في 2018، لدعم مشروع قانون الاستخدام العلاجي للماريغوانا، بهدف التأثير على تصويت النواب أيضًا وليس الشعب فقط.

ووفقًا للأستاذ الجامعي خوسيه كابيلي، فإن أول ملكة جمال فلبينية (بورا فيلانويفا كالو) كانت مناصرة لحقوق المرأة في الاقتراع “وناضلت من أجل حق المرأة في التصويت وفازت في المعركة”.

ما وراء البريق

التيجان البراقة والأوشحة والفساتين المطرزة ليست مخصصة حصريًّا للملكات، بل يحق للعاملات المنزليات أيضًا أن يحظين بيوم لهن، وفي 2016 كرّم الفيلم الوثائقي “Sunday Beauty Queen” (ملكة جمال يوم الأحد) هؤلاء العاملات الفلبينيات المغتربات في هونغ كونغ اللاتي يخصصن يوم إجازتهن الأسبوعية الوحيد لتنظيم مسابقات الجمال الخاصة بهن، ويجتمعن أيام الأحد للتدريب على تصميمات الرقصات الخاصة بهن، والعمل على تحسين أزيائهن ومساحيق التجميل.

من بين نحو 190 ألف فتاة يخدمن أسر هونغ كونغ، تجد كثيرات في هذه المسابقات ملاذًا من حياة الاغتراب التي غالبًا ما تكون صعبة.

تكافئ بعض المسابقات الفائزات ببضع مئات من الدولارات، يمكن لهن إرسالها إلى عائلاتهن في الفلبين، وتستخدم آخريات الأرباح لمساعدة عاملات المنازل في وضعية أصعب.

تنتقد الحركات النسوية امتهان المرأة من خلال هذه المسابقات، بجانب التأثير السلبي الذي يمكن أن تحدثه معايير جمالهن على احترام الفتيات المراهقات لأنفسهن.

خلف كواليس هذه الصناعة، ليس الواقع برّاقًا، فقد كشف التقرير أن “بعض الفتيات يواجهن الابتزاز ثم يجدن أنفسهن ضحايا للاتجار بالبشر والدعارة والمخدرات “.

واستنكر عدد من المرشحات وقوع تحرش جنسي خلال مسابقات ملكات جمال العالم في مانيلا عام 2018، لكن هذه الانتقادات ليس لها صدى يُذكر في بلد “يحكم فيه الجمال”.

المصدر : الجزيرة مباشر + لوفيغارو