متى تقتل الأم أطفالها؟ وهل من مؤشرات قبل وقوع الفاجعة؟ هذا ما قاله الأطباء النفسيون

عندما تتحول نبع الحنان إلى مصدر خطر على الأطفال فإن الأمر يصبح عصيا على الفهم (بيسكباي)

لا تكف وسائل الإعلام عن نقل قصص مروّعة تروي قتل الأم لأطفالها، في ظروف ولأسباب وأماكن مختلفة، لكن مع تكرار الأمر يبقى الأمر غريبًا وعصيّا على الفهم والاستيعاب.

يهتز الرأي العام وينتفض مع حوادث مفجعة من الانتحار باتت تتكرر،  آخرها كان في مصر إذ انتحرت زوجة شابة بعدما طلّقها زوجها، لكن الواقعة الأصعب كانت قبل 10 أيام، عندما شهدت محافظة الدقهلية قصة حنان (30  سنة) الحاصلة على بكالوريوس تربية قسم لغة عربية والتي حاولت الانتحار بعد ذبح أطفالها الثلاثة تاركة رسالة مؤثرة لزوجها محمد (33 عامًا) الذي يعمل في السعودية أبلغته فيها أنها “نقلت أولاده إلى الجنة”.

ولا تزال حالة حنان الصحية في خطر بينما دفن الأب أبناءه أحمد (10 سنوات) وأنس (5 سنوات) وسمية (3 أشهر)، وأبدى خلال جنازتهم تعاطفًا شديدًا مع أمهم وأثنى عليها، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات بشأن الجوانب النفسية للأم وهل هي الجاني أم الضحية؟ وكيف ستسير حياتها حال نجاتها وخروجها من المستشفى؟

 

ماذا يقول الأطباء النفسيون؟

قال الطبيب النفسي ومدير موقع (بيت سلام) لاستشارات الصحة النفسية ملهم الحراكي إن المؤشرات تظهر على الشخص قبل ارتكاب أي من هذه الجرائم، وهي تغيّرات على السلوك تتصف بالغرابة وكأنه شخص مختلف. يشعر بأن من حوله يتآمرون عليه، كما أنه يضخّم شعور الذنب لديه أو تهديد بالانتحار وإيذاء الآخرين وأيضًا التلميح لذلك.

واعتبر في حديث لموقع الجزيرة مباشر أن كلها أعراض يجب أن تؤخذ بجدية، خاصة إذا كانت متكررة وفي سياق زمني استثنائي.

ورجح  أن يتعلق الأمر في حادث الدقهلية باكتئاب شديد ما بعد الولادة، خاصة وأن الأم لها رضيعة تبلغ 3 أشهر، وأن الزوج شهد لها بأنها إنسانة طبيعية وأن السلوك الإجرامي بعيد عن شخصيتها.

وقال الدكتور الحراكي إن الأعراض توضّح أن الأم كانت مصابة بذهان ما بعد الولادة، وهو من الحالات الخطيرة جدًا في الطب النفسي، إذ تشعر الأم معه باكتئاب شديد إضافة إلى أوهام بأنها مقصّرة مع أطفالها بشكل كبير، ويمكن أن يصل الأمر حد قتلهم خوفا عليهم، وهي أوهام تراود المصابة بأشكال متعددة.

الطبيب النفسي ومدير موقع بيت سلام) لاستشارات الصحة النفسية ملهم الحراكي (خاص)

متى يقتل الشخص أهله؟

في يوليو/تموز 2021، شهدت محافظة قنا المصرية واقعة قتل أم لأسرتها المكونة من الأب وأطفال ثلاثة، بعد أن قدمت لهم جرعة سم مركّزة لزوجها وأطفالها.

وفي مارس/آذار 2019 قتلت أم مصرية أطفالها الثلاثة آخرهم حديث الولادة في منطقة المرج بالقاهرة، بإغراقهم في الماء، وقالت إن زوجها وزوجته الثانية أجبراها على ذلك تحت التعذيب.

أشار الطبيب أن “حزن الوليد” أو كآبة ما بعد الولادة هي حالة طبيعية من أعراضها سرعة البكاء، لكن يصبح الأمر غير عادي عندما تظهر أعراضًا غير طبيعية على الأم في علاقتها بطفلها أو تراودها أفكارًا بأنها أم غير جيدة.

وأفاد الدكتور الحراكي بأنه في حال عدم وجود ولادة قريبة أو في حال حدث الأمر مع الأب أو أي شخص آخر فإن الأمر قد يتعلق بأمراض نفسية أخرى.

وأضاف أنه عايَش حالة أخذ فيها الأب الأسرة إلى البحر وحاول إغراقهم، وقال إنه كان مصابًا بالفصام العقلي، وتوهّم أنه يجب أن ينتحر وإذا حدث ذلك فإن أبناءه سيعانون من بعده، وحتى لا يحدث ذلك، فإنه سيجعلهم يموتون معه.

وكان الأب، بحسب الطبيب، يتوهم أنه غير كفء كأب وأن عليه أن ينهي حياته وأولاده معه، وهذه الحالات تكون في حالات الاكتئاب الشديد وثنائي القطب وذهان ما بعد الولادة.

أما عن قتل الزوج لزوجته والعكس، يقول إن الأمر يتعلق بمتلازمة توهّم الخيانة أو الغيرة المرضية، ويتوهم معها الشريك بقناعة تامة أن الطرف الآخر يخونه، وهو مرض شائع أكثر بين الرجال.

تصيب متلازمة توهم الخيانة أو الغيرة المرضية الرجال أكثر من النساء (بيسكباي)

وقال الدكتور الحركي إن المريض في هذه الحالات لا يكون في وعيه، أو بتعبير أدق في حالة محاكمة أو استبصار، إذ يغيب عن العقلانية، وفي حالة أم الدقهلية يوضح أنها في حال نجت من محاولة الانتحار وعرفت أنها قتلت أطفالها، من الوارد أن تدخل في اكتئاب جديد ومحاولة انتحار أخرى، خاصة مع الضغط الاجتماعي الذي سيكون كبيرًا جدًا عليها.

أمّهات ولكن!

في يناير/كانون الثاني 2020، اتهمت شرطة مدينة فينيكس في ولاية أريزونا الأمريكية، شابة تبلغ من العمر 22 عامًا بارتكاب جريمة قتل من الدرجة الأولى، بعدما اعترفت للشرطة بإقدامها على قتل أطفالها كانت تبلغ أصغرهم 7 أشهر.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلنت محكمة ألمانية الحكم بالسجن المؤبد على أم (28 عامًا)، وذلك بتهمة قتلها أطفالها الخمسة والشروع في قتل الطفل السادس (أصغرهم يبلغ سنة)،  بسبب رؤيتها صورة طليقها مع عشيقته الجديدة، فأرادت الانتقام منه وحرمانه من رؤية أطفاله إلى الأبد.

وفي يناير/كانون الثاني 2022، قتلت أم بريطانية أطفالها الثلاثة خنقًا، بسبب معاناتها من الاكتئاب، وفي تفاصيل  جريمة القتل المأساوية، قال الأب أندرو ماكجينلي، إن زوجته ديردري مورلي، البالغة من العمر 44 عاماً، قتلت الأطفال الثلاثة وهم كونور، (9 أعوام)، وداراغ (7 أعوام)، وكارلا (3 أعوام)، في منزلهما بدبلن في 24 يناير 2020 ، عندما دخلت مورلي في حالة من الوهم والذهان.

الدكتور عبد الرحيم الريفي المعالج المتخصص في علم النفس الإكلينيكي (خاص)

وقال الدكتور عبد الرحيم الريفي المعالج المتخصص في علم النفس الإكلينيكي، إن الأمر مرتبط ببعض الاضطرابات النفسية التي تصحب مرحلة النفاس، والوعي بها مع الأسف غير شائع.

وأضاف لموقع الجزيرة مباشر، أنه ما بعد النفاس أو ما بعد الولادة تعاني حوالي 85٪ من النساء من الاضطرابات المزاجية والنفسية، بعضها يكون خفيفا وقصير المدى وبعضها يكون أصعب.

سلسلة ما بعد الولادة

وقسّم الدكتور الريفي هذه الاضطرابات إلى 3 فئات، أولاها “كآبة ما بعد الولادة” والثانية “اكتئاب ما بعد النفاس” والثالثة “ذهان ما بعد الولادة” أي (psychosis)، ويطلق عليها مجتمعيًا “الجنون”، وهو مرض عقلي.

وقال إنه يمكن تصوّر أنها سلسلة تظهر بعد الولادة بدون أي أعراض في البداية، ثم تليها الفئات الثلاث، أبسطها الأولى وتعاني منها حوالي 50٪ من النساء.

تعاني حوالي 50٪ من النساء من كآبة ما بعد الولادة أو “حزن الوليد” (بيسكباي)

وأفاد الدكتور بأنه يمكن اعتبارها تجربة طبيعية، وأعراضها تتمحور حول تقلّب المزاج، ويكون فيها بكاء وقلق وقد تصل ذروتها في اليوم الرابع أو الخامس بعد الولادة ويمكن أن تستمر بضع ساعات أو أيام وتنتهي دون الحاجة إلى أي علاج ويُكتفى بالدعم الأسري والمجتمعي.

وذهب المتخصص إلى أن المرحلة الأولى يمكن اعتبارها جرس إنذار في حال كانت المرأة تعاني من تاريخ من الاضطرابات النفسية والاجتماعية.

ومضى الطبيب في حديثه لموقع الجزيرة مباشر، إلى “اكتئاب ما بعد الولادة” والذي يمكن أن يظهر في أي وقت خلال الـ3 أشهر الأولى، مشيرًا إلى أنه من الصعب تفريقه عن الاكتئاب العادي في الأعراض، إذ تكون عبارة عن مزاج مكتئب وحزين وبكاء مستمر وفقدان الاهتمام بالأنشطة المعتادة والشعور بانعدام القيمة والكفاءة والإعياء المستمر، واضطرابات النوم والأكل مع وجود أفكار انتحارية.

جرس الإنذار

وحدد الأخصائي النفسي الحالة الأخطر في “الذهان النفاسي”، والتي يطلق عليها طبيًا حالات الطوارئ النفسية، والمرأة التي تشخص كذلك تُحجز في المستشفى وتعالج بالأدوية يصل بعضها للصدمات الكهربائية تحت إشراف طبي، وتستحق رعاية شديدة.

وأوضح أنه لا يمكن معرفة ما تفكر به المصابة بالمرض إلا إذا تحدّثت، وهي غالبًا ما تدخل في حالة الهلوسة وتتخيل أمورًا غير موجودة في الواقع، وأحيانًا لا تحس بأي مشاعر على الإطلاق وانحراف في المعتقد الفكري، وتشعر بأنها من حقها أن تنهي حياتها أو حياة إنسان آخر، وهي أفكار شاذة، وهو ما يجعل المرأة تقتل أولادها.

وقال دكتور الريفي إن ذهان ما بعد الولادة من الأمراض النفسية النادرة، ويصيب حوالي 2٪ من النساء، وتكون علاماته الأولى القلق والأرق وتهيّج المزاج إما معكر أو مبتهج أكثر من الطبيعي، مع ارتباك في السلوك وهلوسات إما سمعية أو بصرية، وتؤدي هذه الحالة إلى قتل الرضيع والانتحار.

كآبة ما بعد الولادة قد تكون جرس إنذار على الذهان النفاسي (أرشيفية)

كيف نتجنب تكرار الفاجعة؟

وأفاد الأخصائي النفسي بأن اكتئاب ما بعد الولادة هو مرض نفسي لكن المصاب به لا يؤذي الآخرين، لكنه قد يؤذي نفسه ويصل حد الانتحار، إنما الذهان يجعل الأفكار تتغير تمامًا، وفي حال تشخيصه كذلك يعتبر المصاب به قانونًا وشرعًا غير مسؤول عن أفعاله.

ويتحدث باب من الفقه الإسلامي عن المسؤولية المرتبطة بالجنون، وهو غير مكلف ولا مسؤول عن تصرفاته، وفي حال نجاة الأم التي ذبحت أطفالها وحاولت الانتحار في الدقهلية، يقول الدكتور إنها تحتاج للعلاج النفسي المنتظم بالأدوية والمرافقة النفسية، ليس لها فقط بل لزوجها أيضًا والمقربين منها الذين صدموا من الواقعة.

واعتبر الدكتور أنه في حال شفيت الأم فالخوف عليها ليس فقط من نفسها بل أيضًا من نظرة المجتمع لها وخوف الناس من التعامل معها وتجنب ترك أطفالهم بالقرب منها، ما قد يطوّر لديها أعراضًا أخرى.

ونصح في حال عدم وجود الدعم المجتمعي والثقافة النفسية، أن يُفرض على المرأة في مرحلة النفاس أن تراجع متخصصًا نفسيًا مرة كل شهر في الأشهر الثلاثة الأولى وأيضًا في فترة الحمل، خصوصًا إذا عانت من مشاكل نفسية سابقة، حتى يتابع أعراضها ويقيّم حالتها، وهو ما يمكن أن يغني عن الخوض في مثل هذه الحوادث.

المصدر : الجزيرة مباشر