شاتيلا.. 3 ملاحظات

 

سيف الإسلام عيد

 

في سبتمبر/أيلول من عام 1982 نفّذ العدو الصهيوني وحزب الكتائب اللبنانية وما يسمى بجيش لبنان الجنوبي مجزرة بحق الفلسطينيين القاطنين في مخيمي صبرا وشاتيلا الواقعين جنوب لبنان بهدف إسكات صوت المقاومة من الفلسطينيين واللبنانيين اللذين اتحدوا تحت هدف مقاوم واحد، ضجّ العالم بأصداء المذبحة آنذاك، وبقيت طيّ الذاكرة، جنبًا إلى جنب مع مذابح عدّة ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني في شتاته العربي وغير العربي، أو في وطنه المحتل، تزدحم بها ذاكرة الفلسطيني والعربي والمسلم المهتم بالقضية الفلسطينية العادلة، سواء قبل مذبحة صبرا وشاتيلا أو بعدها.

المذابح ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية مأساة مستمرة تضج بها ذاكرة المهتمين بقضايا الديمقراطية والحرية والعدالة، وتكثر في بلادنا العربية بفعل الاحتلال الأجنبي أو وكلائهم من المستبدين.

داخل مخيم شاتيلا

أثناء زيارتي الأخيرة إلى لبنان، حيث قضيت إجازة عيد الفطر، تمكنت بدعوة تفاجأت بها من سيدة مناضلة فاضلة، وشاب يعمل في المخيم من الدخول إلى مخيم شاتيلا ورافقاني إلى دهاليزه، الشاب يعمل في جمعية خيرية تساعد في تنمية المخيّم، والسيدة اعتادت زيارته منذ قديم.

مخيّم شاتيلا الذي كنت أسمع عنه فقط من صغري، ولم أكن لأتخيل يومًا أن أسير في أزقته الضيقة، وأقف صامتًا أمام سكوت المقبرة الجماعية التي تأوي رفات شهداء المذبحة من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، كنت في حالة صدمة لا أستطيع إنكارها، جعلتني أشاهد في صمت التاريخ الذي أسير من خلاله، منذ أن دخلت السوق الشعبي في بلدة الغبيري، مرورًا بالمقبرة الجماعية التي توري رفات الشهداء، ووصولًا عند مقبرة أخرى تضم رفات من قضوا في حرب المخيمات (1985ـ 1988) تعتليها صورة كبيرة للشهيد “علي أبو طوق”، ثم أزقة لم تخلُ حيطانها من مكان إلا وقد ألصق عليها صورة شهيد أو قائد مقاوم، إلى أن خرجت من المخيم بعد ساعات عدة قضيتها هناك تجوالًا وحديثًا مع (محمد ومحمد) أسيرين فلسطينيين قضيا وعائلتاهما (نساءً ورجالًا) سنينًا من  الأسر في سجون الاحتلال الصهيوني، قبل أن أولد أنا!

بالطبع، لا يخل حديث بين سجناء سابقين من ذكريات السجن، حتى ولو كانوا من أجيال مختلفة، وسجنوا في أحداث وبلدان وسجون مختلفة، بيد سجّان مختلف المأرب والهوية، متفق في الغاية، إسكات أي صوت للحرية، حديث عن تصميم السجن، وعن البرنامج اليومي، والنضال من الداخل، والإضرابات، والمناوشات، والأحاديث بين السجناء وبعضهم وبين السجناء وسجّانيهم!

رغمًا عن الصدمة اللذيذة التي عشتها، إلا أني قد سجّلت ثلاثًا من الملاحظات التي لا تغفلها عين باحث عايش ثورة وانقلابًا بتوابعهما، ويتهم بقضية فلسطين كما لو أنه وُلد في أحد مدنها:

الأولى: ذاكرة مفصّلة

تحضر في أضيق أزقة المخيم -الذي يشبه الكثير من الأحياء العشوائية في مصر- الذاكرة الفلسطينية بأدق تفاصيلها، تفاصيل أحداث عاشها أهل المخيم، وأحداث القضية الفلسطينية منذ النكبة (1948)، وعصور الهزائم والانكسارات، وأحداث الهبات، وتأريخ دقيق لبطولات الفصائل الفلسطينية المختلفة، وتأريخ لكل حدث وحادثة وبطولة ومذبحة، ونكبة وهزيمة وانتصار! حضور الذاكرة أصل من أصول المقاومة، فمن ينسى ثأره أو مجده أو ألمه لا يبني عليه، هكذا حدثتني أزقة المخيم حينما مررت فيها من أولها إلى آخرها، ولم أجد على الحوائط إلا تأريخًا لما مرّت به فلسطين!

 

الثانية:

فلسطين صغرى بفصائلها كافة

لا يمكن أن تحتسب المخيم على فصيل فلسطيني واحد يتحكم فيه، الفصائل كلها والمكونات الحركية والحزبية والشعبية موجودة فيه، صور الزعيم ياسر عرفات والشهيد أحمد ياسين والأسير أحمد سعدات والشهيد فتحي الشقاقي، بل وحتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس، كل الزعماء والقادة التاريخيين للفصائل الفلسطينية كافة موجودون على جدران المخيّم، حتى ليصعب على زائر تطأ أرضه المخيم لأول مرة من أن يحسب كم فصيلًا مذكورًا، كم قائدًا مذكورًا ومحفورًا في ذاكرة المخيم، كل فلسطين باختلافها وتنوعها وتناقضاتها موجودة هناك.

كان ذاك مما استوقفني في ملاحظاتي لقدرة هذا الجمع على التعايش رغم الاختلاف، وعلى إظهار الاختلاف وليس بإخفائه، أن ترى فلسطين صغرى مشتتة تنتظر العودة أجيالًا إلى أرضها المحتلة.

 

الثالثة:

مخيّم حيّ مواكب لكل حدث

استوقفتني صور شهداء فلسطينيين قضوا منذ أسابيع عدة على أيدي الاحتلال الصهيوني في عمليات نوعية في الضفة الغربية، انضموا لمجموعات (عرين الأسود) و(كتيبة جنين)، أو نفذوها بأنفسهم فُرادى، استعجبت كيف للمخيم أن يواكب كل حدث فلسطيني راهن، ويعليه على جدرانه، ويمدح في أبطاله، وهو الذي لم يمرّ عليه سوى بضعة أسابيع. كيف ومتى استطاع هذا الجمع المشغول بحياته اليومية في بلاد تمر بأزمة اقتصادية طاحنة، أن يواكب كل ذلك؟

إن التفاعل مع الأحداث الراهنة يبقي المخيّم على حال استنفار دائم، ويقظة متواصلة، وتشابك يخفف من الشتات القسري لآلاف العائلات الفلسطينية، وأجيال عدة ربت ونمت في الشتات، لا تعرف عن بلدها الأصلي إلا الحكايات والصور، إلا أنها ما زالت تشتبك مع أحداثه -بكل وسيلة ممكنة- يومًا بعد يوم. ذلك الاشتباك الدائم يعدّ المخيم كمثقف مشتبك -بتعبير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي- ويقرّب من مسافات “البلاد” القريبة بفعل الجغرافيا البعيدة بفعل الشتات.

يمكن لباحث أنثروبولوجي مهتم بما تحويه الحوائط من محتوى أن يتم دراسة إثنوجرافية كاملة من حوائط المخيم الكثيفة الحضور، ويرى كيف تواكب جدرانه كل حدث فلسطيني وتحيي ذكراه، وتتفاعل معه؟

لم تمتد زيارتي للمخيم سوى بضع ساعات، قضيتها مستمعًا، مشاهدًا، مصدومًا صامتًا في أغلب الأحوال، أنشطة ممتعة عرّفني عليها الشاب الذي يعرف أزقة المخيم شبرًا شبرًا تبقيه حيًّا، وحكايات سردها سكّان المخيّم، وأحداث وسير أبطال سردتها لي السيدة المناضلة و(محمد ومحمد) اللذين التقيت بهم أنتجت هذه الكلمات، فكيف بمن يتردد على المخيّم الكثيف الذاكرة مرارًا!