بنت مصر “اللي قادرة ع التحدي والمواجهة”

(غيتي)

تضرب كفًا بكف وأنت تقرأ لأناس يزعمون أن طه حسين شخصية خيالية، شخصية لم تولد ولم تدب على الأرض، مجرد شخصية كرتونية رسمتها أقلام ومخيلات! ومع فورة السوشال ميديا بعد ثورتها تجد ما هو أنكى وأغرب، هذه فتاة مصرية تحتفي بها المنصات، فتاة شجاعة شهمة منقذة، وللاستدراك ليست منقذة من الضلال، إنما من الغرق وعلى دفعات.

في السابعة والنصف صباح 14 يناير/كانون الثاني 2023، جرت واقعة ما انتشرت بعد أيام عبر العالم الافتراضي، زعمت الشابة أماني محمد نبيل (28 عامًا) أنها كانت في طريقها من قريتها (ميت سهيل، مركز منيا القمح، محافظة الشرقية) متجهة إلى منيا القمح، وقريبًا من كوبري أبو طبل وجدت ﴿أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ﴾ أمام الترعة، وقد أوشكت سيارة على الغرق، بها 4 أطفال مع ﴿امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾.

الراوي -حتى اللحظة- أماني بشحمها ولحمها، فهي تمارس دور الراوي والبطل معًا (قايمة بدورين)، من دون تفكير أخذت حديدة من ميكانيكي تصادف وجوده عند الترعة، وقفزت حيث السيارة الملاكي الحزينة، وبضربة واحدة استجاب الزجاج فانكسر، وتمكنت من إخراج الأطفال. لم تغلِ مراجل الرجولة في الصدور، اكتفوا بدور المندهش، لتعود العزيزة أماني إلى السيارة وتخرج المرأتين، ثم -ولأنها ممرضة- تُجري للستة عن بكرة أبيهم إسعافات أولية، حتى عادوا من بعيد وتنفس الجميع الصعداء.

لا تتعجب الآن، إذ إن للقصة بقية باقية، أصرت البطلة -التي علمها زوجها السباحة- على اصطحاب ذوي السيارة إياها إلى مستشفى الجامعة، من باب ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، ثم عادت -بعد عزف منفرد على الترعة، مع الاحترام والتقدير لعمنا نزار قباني- إلى بيتها مصحوبة بالسلامة. وانتقلت الأحداث من العالم الفعلي للعالم الموازي، إذ شكرت (بالكاف) منصات التواصل هذا الصنيع الذي عجزت عنه شنبات اكتفت بالمشاهدة دون المشاركة.

ما هي إلا ساعات حتى كتبت الدكتورة مايا مرسي -رئيس المجلس القومي للمرأة- منشورًا ثوريًا عبرت فيه عن امتنانها لهذه الملحمة، قالت فيه “البنت المصرية الجدعة الشجاعة”، مضيفة “أماني محمد، رقيب تمريض عسكري، نموذج لمصرية نفخر بها، بنت مصر الأصيلة”، وأرفقت المنشور بهاشتاغ بنت مصر، ولعلها -السيدة مايا- عدّتها ملحمة لا تقل عن ملحمة أدهم الشرقاوي ونخوة سليمان خاطر؛ فكلهم شراقوة ولو اسمًا، والباقي شكليات.

وفي وقت يتوق الناس فيه لإنجاز -إن جاز التعبير- لم يتأخر كثيرون عن التهليل والتغريد، حفاوة لا تعادل تعافي الجنيه أمام الأخضر -حتى وإن كان الأخضر الإبراهيمي- ونشوة تفوق نشوة العيال التلفانة بتداول مقاطع بلوتوث ساخنة، ولوهلة دبت في عروق أناس ملامح نظرية المؤامرة، ارتأوا أننا أمام النسخة المصرية من أليكسي ستاخانوف، وأن وصلة العراضات الإعلامية ستنطلق في غضون ثوان، عقب رسالة من هاتف سامسونغ.

الحبكة تزحف نحو العقدة، ها هي لم تتأخر، مستشفى جامعة الزقازيق ينفي ورود بلاغ من الأساس، مرفق الإسعاف الذي يفترض أنه نقل الأشخاص الستة نفى القصة، لا توجد صورة لعملية الإنقاذ إياها أو مقطع فيديو، وأرجوك لا تخبرني أن الصدمة التهمت الأيدي والهواتف وحبست الأنفاس، فقد رأيت بأم عيني أناسًا يخرجون هواتفهم لالتقاط الصور والفيديوهات خلال طوافهم ببيت الله الحرام. مع ذلك، لم تُنشر صورة واحدة لهذه السيمفونية البطولية المتفرّدة، ويكأنها حفار مترو الأنفاق.

فجأة كرسي ثانٍ في الكلوب، حُذف منشور المجلس القومي للمرأة، واختفى الاحتفاء ببنت مصر الشجاعة (اللي قادرة ع التحدي والمواجهة)، ما ينسف خيط المؤامرة وستاخانوف والشوفينية والاجتهاد التطبيلي من هنا وهناك. قطع الدّومينو تتساقط واحدة تلو الأخرى، صحف مصرية ومواقع إلكترونية تحذف الخبر، يبدأ التشكيك في الواقعة برمتها، مواقع التواصل تشكر (بغير الكاف) لأماني، يتحرك الحس الصحفي الاستقصائي قبيل خراب مالطا، ينطلق رفاق المخبر كولومبو والعزيز شيرلوك هولمز إلى ميت سهل، مسقط رأس بطلة الحدوتة وراكبة التريند.

البداية مع الأم “بنتي لا بطلة ولا حاجة، ونرفض الحديث في هذا الموضوع”، شكرًا يا حاجة، ابن عمها عبد السلام محمد عبد الحميد لم يجد حرجًا في ذكر تفاصيل أوفى من اقتضاب والدتها، فابنة عمه مفصولة من عمل سيادي (لم يسمّه) منذ 7 سنوات، اخترعت القصة برتوشها وتفاصيلها لاستمالة مسؤولين يساعدونها في العودة إلى عملها السابق، وهي متزوجة من طارق خالد -من قرية النعامنة ويعمل في إيطاليا رفقة صهره، شقيق أماني- ولها أربعة أبناء، ولم يفرمل عبد السلام؛ فذكر أسماء أبنائها، إمعانًا في الصراحة والمصداقية، ربما!

ماذا عن مجاهد محمد قنصوة عمدة ميت سهيل؟ بسؤاله عن الواقعة قال إنه سمع بالحادث عبر منصات التواصل، لم يتلق أي إخطار من مركز شرطة منيا القمح، مفجّرًا مفاجأة ذات وزن، فالبطلة إياها مفصولة من مدرسة التمريض العسكري منذ 7 سنوات، ولا علاقة لها بالقوات المسلحة الآن.

قال العالمون ببواطن الأمور إن على المصريين أن يتريثوا وأن يفعّلوا المبدأ السامي (بطّلوا هري)، وهذا مثال فيه الكفاية والغُنية إذ انقلب السحر على الساحر، ومن بطلة بـ100 رجل -قبل ساعات- إلى بطلة فنكوش، وبطلة من ورق، وباحثة عن التريند، أغراها مرض الشهرة وهوس التريند، وعلى حد تعبير الموقع الإلكتروني لجريدة الجمهورية (محلية) فإن “حكاية أماني بنت الشرقية.. طلعت فنكوش”.

لكاتب هذه السطور مقالان أحدهما بعنوان (خلف الأحمر في دير شبيغل)، والآخر بعنوان (إيكاروس وحبل الفبركة) ينوسان في هذا الشأن، ورحم الله الدكتور أحمد خالد توفيق إذ ضمّن كتابه (اللغز وراء السطور) مقالا عنوانه “المدلسون”، يدور في الفلك ذاته، ومن قبل كتب يحيى حقي أن أسباب الرزق قد ضاقت به في القاهرة العامرة، عام 1925، فور حصوله على ليسانس الحقوق هو وزميله توفيق الحكيم، فسافر إلى الإسكندرية وتنقّل بينها وبين البحيرة بصفته محاميًا تحت التمرين.

وبحثًا عن مصدر ثانٍ للدخل، قصد جريدة ذائعة الصيت بالإسكندرية، تعوّل في زيادة مبيعاتها على أخبار يرسلها مندوب الجريدة في إسطنبول، فلما دخل حقي الجريدة قابل رجلًا ذابل الجسد مهترئ الصحة محدودب الظهر، يمسك بيده مقصًا يختار به نتفًا من جرائد تركية تصل عبر البحر، ثم يترجمها وتُنشر على أنها أخبار طازجة، وللمساكين أيضًا بالندى ولع، ويجعله عامر.