اليمن.. شرايين مقطوعة!

الطرق هي شريان الحياة، وقنطرة التواصل بين البشر..

لكن لها في اليمن وضع مختلف، فقد أصبحت إحدى طرائق الموت، وفي أحسن أحوالها باتت أسلوبًا للعذاب اليومي الأليم!

يقول ابن الوردي: (ليس مَن يَقطع طُرْقًا بطلًا*إنما مَن يتقي اللهَ البطل)، فلماذا لم يتقِّ الله في شعبه مَن قطّع طرقات اليمن وشرايينها؟ منذ سبع سنوات عجاف -هي زمن اندلاع أشأم حرب في اليمن- والمواطن اليمني يتجرع عند تنقله داخل اليمن، أو المجيء من خارجه من العذاب والذل ما لا يطاق، أتذكر حالة الاختناق التي كنت أشعر بها عند السفر إلى اليمن فأصاب باكتئاب شديد، وصعوبة في التنفس، وليس في ذلك أية مبالغة، فمهما وصفت لا يمكنني أن أنقل لمن لم يعش التجربة ذاتها، أدنى صورة واقعية عن تلك المعاناة التي لخّصها أحد المسافرين فيها بقوله: (سَفَرٌ يشيب به الجنينُ، وينحني*ظهرُ الرضيعِ، وتُجهضُ العذراءُ).

إن قطع المتحاربين -على اختلاف الدوافع التي يسردونها- الطرق الرئيسة جَعَل الناس يصطنعون طرقًا بديلة، كثير منها لا يصلح في الأوقات العادية حتى مهربًا للصوص! ولكم أن تتخيلوا أن تلك الطرق تمر في مجاري السيول المتهدمة، أو في ممرات صخرية وعرة، أو في قلب الصحاري المرعبة، واسألوا تعز وأهلها عن تلك الممرات الجبلية الوعرة والمرتفعات الشاهقة الخطرة.. واقرؤوا في سجلات الحوادث كم روحًا أزهقت وكم ممتلكات أهدرت؟ وكم بضائع فسدت وكم مصالح ضيعت بسبب تلك الطرق التي صنعها ذلك الحصار اللعين.

أتذكر في أحد أسفاري أن سيلًا كبيرًا اندفع وجرف الطريق تمامًا، لكن لم يكن هنالك مناص من إكمال السير عبر تلك الطريق، ولكم أن تتخيلوا أن طريقًا لا تحتاج سوى ربع ساعة ظلت الحافلة تزحف فوقها مجبرة مدة ساعتين ونصف الساعة، ونحن بداخلها نختنق كمعتقلين يساقون في شاحنة مصمتة!

نقاط الجباية والإذلال

يقول أحد الذين عانوا من النقاط الأمينة: تقريبًا أكثر من 45 نقطة أمنية من نقطة خروجي من (المهرة) إلى أن وصلت إلى (تعز)!

هذه ليست مزحة، بل حقيقة مُرة، وفي كل نقطة أمنية يتكرر ذات السيناريو المرعب: جوازك، ومن أنت؟ ومن أين أنت؟ ولمَ أنت هنا؟ ومن أين أتيت؟!

وغالبًا تصك أذنك مصطلحات عنصرية وسياسية مهينة، لكن الأكثر وجعًا هو أن يكون أهلك قد بلغت قلوبهم الحناجر، وذابت أفئدتهم شوقًا لغائبهم، وخوفًا عليه، فيتم -بتعسف مهين لا يمت إلى الإنسانية بصلة- إنزالك، وتضطر الحافلة إلى تركك لمصير مجهول، فقط لأن أحد عساكر النقطة يريد ابتزازك ماديًا، أو لأنه تم الاشتباه بأنك تتبع هذه الجهة أو تلك!

ما زلت أتذكر ذلك الوجوم الذي يخيم على وجوه الجميع، حزنًا وحسرة، وتحرق أرواحهم علامة استفهام كبيرة، لماذا يحدث كل هذا؟! ماذا فعل اليمني ليحصل له كل هذا (وفي بلده)؟ ليأتيك الجواب لا شيء! فقط بغرض إذلال كرامة المسافرين، وفرصة ثمينة للجبايات والنهب.

طريق الجوف.. صحراء زُرعت ألغامًا!

كل هذه المعاناة ولم ترتوِ قلوبهم الحاقدة، ولم يُشبِع ذلك العناء نفوسهم المريضة، حتى تم إغلاق طريق مأرب صنعاء.. ما يضطر المسافر بأن يقطع طريق الجوف الصحراوية، تلك المهلكة التي تلقي بنفسك فيها إلى المجهول، فإما أن تلتهمك صحراء مخيفة، لا تظهر فيها معالم طريق واضحة، وإما أن تقع فريسة للصائلين المتقطعين الذين تلفعت وجوههم بأوشحة اللصوص، ووئدت الرحمة في قلوبهم، لا يهمهم حين يظفرون بك أن ينهبوك ثم يقتلوك ويرمونك جثة هامدة لهوام الصحراء! وإما أن تغدر بك الصحراء وتهوي بك سيارتك في أعماق الرمل ولا يبقى إلا نبأ وفاتك يطير مع الريح الرملية العاصفة ليصفع قلوب من ينتظرك بلهفة، أو يسبق لهفتك القدر فينفجر بك لغم من الألغام المنتشرة في طول الصحراء وعرضها.. وإما يحالفك الحظ فتخرج من تلك الصحراء لتعلن للدنيا بأنك قد كُتبت لك حياة جديدة.

مالك وللأرض، غادر عبر السماء!

قد تُقرر كمهاجر العودة عبر الطيران، فمالك ولهذه المعاناة؟! ولكنك تصعق بأسعار التذاكر الجنونية، فقد تصل سعر التذكرة الواحدة إلى 2000 دولار من دولة خليجية إلى اليمن، هذا إن حالفك الحظ واستطعت الحصول عليها وإلا ففرصة الحصول عليها من أعقد الأمور، إضافة إلى أنك تضطر أن تنزل ترانزيت في مصر أو السودان أو الأردن فلا رحلات مباشرة إلى اليمن!

هي حكاية عذاب يتجرعها اليمنيون دون أن يحرك المتشدقون بشعارات الإنسانية ساكنًا، أما الضمير العالمي..  فقد أسمَعتَ لو ناديتَ حيًّا*ولكن لا حياةَ لمن تنادي.