لماذا أعبدُ الله؟

قبل أن أجيبك على السؤال، تأمّل معي في قصة خلق آدم عليه السلام، وسؤال الملائكة الكرام لله جلّ وعلا عندما أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة: {وإذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويَسفكُ الدماءَ ونحنُ نسبِّحُ بحمدِكَ ونُقدِّسُ لك} فالملائكة تسأل لماذا يا رب ستعطي هذا المخلوق مقاليد الأرض وتطلق يده فيها وتكل إليه هذه المهمة العظيمة من إعمارها وتسخير كل طاقاتها وكنوزها يصول ويجول فيها؟ ثم هو-وفق علم الملائكة وما لهم من إلهام البصيرة والفطرة البريئة- ممن يفسد فيها ويسفك الدماء! لماذا يا رب ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟!

فالطبيعة الملائكية ترى عبادة الله تبارك وتعالى والتسبيح بحمده والتقديس له علة الخلق والغاية المطلقة للوجود، وهم قائمون بذلك حق القيام، يعبدون الله ولا يفترون عن ذلك البتّة، فما الداعي لأن يجعل الله خليفة في الأرض يكمن فيه جانب من الشرّ وليس ممن يكرّس ليله ونهاره للتسبيح والتقديس؟ ليأتيهم الجواب الإلهي: {قالَ إنّي أعلمُ ما لا تعلمون} فهناك علم رباني قد خفي على الملائكة الكرام، حكمة إلهية غابت عنهم في جعل مهمة إعمار الأرض وتنمية مرافقها واستثمار ثرواتها وكل إمكانياتها في يد هذا الإنسان، الذي يتنازعه الشر أحيانًا، ويهديه الخير إلى السبيل أحيانًا أخرى. وهو كذلك إلى أن يلقى مولاه، في حركة دؤوبة وسعي مستمر نحو غدٍ أفضل، وبذلك تستشرف به الأرض الخير الحقيقي الدائم والمستمر، وتمحو به ما شابها واعتراها من أذى وشرور.

الدور المحوري

ولأن هذه المهمة فيها من عظم المسؤولية ما لا يخفى على كل ذي بصيرة، كانت مكانة العلم والمعرفة فيها كمكانة الروح من الجسد. فالعلوم بكل أبعادها الشمولية ضرورية لترتقي بفكر الإنسان ووعيه وتضمن حسن تعاطيه وتفاعله باتزان وتناغم مع نظام الكون من حوله، مما ينعكس بالضرورة على غاية وجوده وتمام رسالته. ولأجل ذلك نبأنا العليم الخبير بما خصّ به آدم من العلم في ذات سياق القصة، لتدرك الملائكة على إثرها حقيقة التكريم وطبيعة المكانة التي حظي بها الإنسان وفضل ما لديه من العلم.

فتخيّل معي بعد كل ما تقدّم أن يأتي هذا الإنسان -المُشرَّف بالتكريم الإلهي وهذا الدور المحوري- ليحصر مهمته في التسبيح والتقديس، ظانًّا أن هذا مقتضى وجوده والغاية المطلقة لخلقه! يقصر نشاطه على العبادات الشعائرية في المسجد ودور العبادة، ويترك ساحات التعليم ومنابر الإعلام ومنصات القضاء ومراكز الاستثمار لمن لا يعرف للكون خالقًا وإلهًا.

واضعًا بذلك كل ما حباه الله إياه من إمكانيات وقدرات خلف ظهره، ليظلم بذلك نفسه أولاً وبني جنسه ثانيًا. نعم، سوف يرتقي في روحانياته وتسمو به حالته الملائكية وتغشاه السكينة والطمأنينة في صلاته وصيامه وسائر عباداته إن أخلص فيها وأصاب، لكنه ما دام قاصرًا جهده على هذا الباب فقد جانب الصواب. هو بذلك على الحقيقة يترك الميدان للمفسدين في الأرض الذين تحدّثت عنهم الملائكة الكرام، يسلّمهم الراية متناسيًا -أو لعلّه متجاهل- التكليف الذي شُرِّف به وأُعطي بحق مؤهلاته.

قد يُخيّل إليه أن ذلك هو الأسلم للجميع. نعم، هو كذلك بمنطق المتخاذلين؛ إذ لا مانع عند أولئك المستبدين والظلمة المفسدين أن تمضي سنين عمرك في التعبد والتسبيح والدعاء، أن تعتكف في مسجدك ما شاء لك من الليل والنهار، فما دمت في طقوسك (كما يسمّونها) مستغرقًا، فلن تمثّل لمد نفوذهم وغطرستهم أي تهديد يُذكر. فقط دعك من الدعوة إلى القيم، لا تأبه بأي إصلاح مجتمعي، لا تبذل وقتك مع من يدرك الفرق بين المدنية والحضارة، ثم إياك أن تسعى لأن تكون لك مكانة في حركة الحياة، وتجنب باب العلوم النافعة، فتلك مقتصرة على منافعهم ولمدّ نفوذهم. باختصار؛ عليك أن تسلّم لهم الصدارة وترضى لنفسك بهامش الحياة، حينها لن يأبه أحد باستغراقك لعمرك في عبادتك الشعائرية.

فما السبيل إذَنْ؟!

لا ترضَ

لا ترضَ لنفسك بأقل من المكانة التي رضيها لك رب العزة، ولا تقلل من شأن ما حباك إياه من إمكانيات وقدرات على تحصيل العلم والمعرفة، وقدِّر قيمتها التي تستلزم الحركة والعمل، واستمر في رقيك وتفاعل مع أطياف الحياة من حولك باتساق مع الطبيعة البشرية. وضع دورك المحوري نصب عينيك وأن إعمارك للأرض عبادة، ليتسع بذلك مفهوم العبادة لله ليشمل باستحضار النية كل سعيك وعملك وحتى تفاصيل يومك.

وهل يقلل هذا من شأن العبادات الشعائرية؟

على العكس تمامًا، هو يؤكد أهميتها، فهي مدرسة بحدّ ذاتها، أنت تحتاج أن تبقيها حيّة في برنامج يومك؛ لأنك إن عشتها بروحها وحقيقة مضمونها أحيت فيك تلك الروح الملائكية التي تتقوى بها على ما أنت مقبل عليه من شأن عظيم. إقبالك بصدق على صلاتك وصيامك ودعائك وسائر عباداتك مستشعرًا به صلتك بالله ما هو إلا زادك للطريق، وما تقوى به على المسير، وأدعى لتثبيت بوصلتك في مهب التحديات من حولك. هي -إذَنْ- وقودك للحركة والسعي والعمل، فخيرها لا ينبغي أن يكون موقوفًا عليك، بل الأصل فيها أن تبني فيك الإنسان الصالح المصلح أينما وُجد.

ولعلك الآن تسألني عن أولئك الذين يسعون معمّرين ونافعين لكل من على الأرض، وليس لهم من هذه العبادات الشعائرية نصيب.

نعم، سيدركون من نجاحات ويحققون من أهداف بقدر صحة سعيهم واجتهادهم لما عملوا، هذه من سنن الكون التي لا محاباة فيها لأحد. لكن دعني أسألك بدوري: ما الذي يحرّكهم؟ وما هو دافعهم وهدفهم فيما يقومون به؟ إن هم أرادوا بذلك تحقيق مراد الله بكونهم مستخلفين معمّرين نافعين فأولى بهم أن يكونوا على مراده في سائر شؤونهم، فالله الذي أوكل إليهم هذه المهمة وشرّفهم بها هو ذاته الذي أوجب عليهم هذه العبادات لعلمه بحاجتهم لها، فليسددوا ويقاربوا. أما إن كان محرّكهم ودافعهم في ذلك تحقيق مصالح لهم بالإضافة إلى نفع غيرهم، فأخبرني عن حالهم عندما تتعارض مصالحهم مع الصالح العام، وانظر ماذا هم فاعلون؟ هل سيستمرون في سعيهم نحو الخيرية التي تعم الجميع متنازلين عن مصالحهم الشخصية؟ فهم ليسوا بالملائكة وتنازعهم قوى الشر كغيرهم، وهاهم هنا تدفعهم مصالحهم، فقل لي أي ضمان لي ولك ولكل من كان على صلة بهم أن عطاءهم سيستمر على أي حال؟ بل أخبرني كيف آمن وغيري من انقلاب حالهم وأذاهم وشرورهم عندما يستلزم الأمر تخليهم عن مصالحهم؟

ولا تنسَ أثناء بحثك عن الإجابة أن الدافعية هنا تشكّل فارقًا دقيقًا مهمًّا لا ينبغي تجاهله بحال؛ فمن ينطلق نحو الخيرية وعمارة الأرض وهو مدرك أنه يقوم بواجبه ودوره الموكل إليه والذي لا يملك أمامه خيارًا أو توانيًا، بل تلزمه فيه المبادرة ما استطاع لذلك سبيلًا، يختلف تمامًا عن ذلك الذي يقوم به تكرّمًا وتفضلًا منه لا استحقاقًا عليه، يدفعه إليه ما يجنيه منه من مصالح لا بأس أن يشترك فيها معه غيره… والسلام.