حكامها علماؤها.. الدولة الرسولية في اليمن

مسجد الأشرفية في تعز (أُسِّس في عهد الدولة الرسولية)

 

على الرغم من تصدّر اليمن لمعظم الأرقام التي تجدول صنوف البؤس في العالم، كالقتل والفقر وانعدام الأمن وتدني الخدمات وتلاشي وجود الدولة، فإنك حتى لو لم تقف على هذه الإحصاءات، فإن معدلات اليأس البادية على وجوه اليمنيين، حيث قابلتهم، ستحكي سيرة المأساة التي بلغت بقلوبهم من تطاولها الحناجر، فارتسمت على وجوههم الشاحبة وأجسادهم الهزيلة وعيونهم المنهكة بما هو أبلغ بيانًا من كل بيان! وتلك نتيجة طبيعية لأعوام بل وعقود من الصراعات والتجهيل، وعدم الاهتمام بالجانب المعرفي والعلمي.

هذا ما يقوله الحاضر اليمني.. فماذا يقول الماضي، وهل بالإمكان العثور من خلال جدرانه على نافذة تفتح على شعاع من أمل؟

العودة إلى التاريخ

إن عودةً إلى التاريخ غير البعيد ستكشف لك وضع “ذلك اليمن” الذي انتُشل -في فترة شبيهة لفترة البؤس الذي نعيشه- من قلب الصراعات والتمزق واليأس، ولتكون مدينة “تَعِز” المحاصَرة في الحاضر هي قاطرة النهوض، ومنارة العلم في ذلك الماضي الملهِم، ومهوى أفئدة العلماء، وأم الحواضر في اليمن الكبير. ولعل المفارقة الأكبر أن كل هذا الزهو والألق والازدهار في اليمن كان حاصلًا، بينما كان العالم الإسلامي يعاني وقتها الويلات والدمار، فقد كان التتار في قلب بغداد -عاصمة الخلافة العباسية- سنة 656هـ، يُهلكون الحرث والنسل، ولم يكن ذلك ليحدث في اليمن، لأن مَن أمسك بزمام الأمور كانوا قادةً عظماء أحبّوا العلم وقرّبوا العلماء، وبنوا المدارس، وأوقفوا لذلك الكثير من الوقفيات الإسلامية، ودفعوا الناس إلى رحاب العلم بكل شغف وحب.

وقد أشار ابن رشد إلى ضرورة أن يكون الحاكم حكيمًا فيلسوفًا عالمًا، فإن لم يكن كذلك، فمن الواجب عليه اتخاذ العلماء والفلاسفة بطانةً له، إلا أن بني رسول قد جمعوا بين الأمرين، فكان الواحد منهم عالمًا جهبذًا، وبطانته علماء جهابذة، ولا عجب بعدئذ أن كانت تعز حاضرةَ المدن الإسلامية.

لقد تتلمذ هؤلاء الملوك على يد العلماء، فتفتقت أفكارهم بالعلم، وألسنتهم بالفصاحة، وأيديهم بالكتابة، حتى أصبح المَلِك فيهم عالمًا مجتهدًا، ومؤلفًا حذقًا، بالإضافة إلى كونه قائدًا حكيمًا. وخذ -على سبيل المثال لا الحصر- الملك المظفر يوسف بن عمر الرسولي، الذي عُدّ من العلماء الموسوعيين، حتى قال عنه مؤرخ الدولة الرسولية (الخزرجي): “كان مشتغلًا بالعلم، أخذ من كل فن بنصيب”، وقد ألّف العديد من الكتب منها (المخترع في فنون الصناعة) الذي ذكر فيه فن صناعة الأسلحة والصناعات المتعلقة بالكتابة وكيمياء إزالة الألوان إلخ، و(المعتمد في الأدوية المفردة)، و(كشف علوم الطب للعَين)، وغيرها الكثير والكثير، بل إنه كان محقّقًا بارعًا، مهتمًّا بما يطلَق عليه اليوم “البحث العلمي”، ويُروى أنه أشكل عليه أمرٌ في كتاب التفسير للرازي، فأراد أن يتأكد ما إذا كان الرازي قد أخطأ في الموضوع، أم إن تصحيفًا أو تغييرًا حصل للكتاب عند النسخ، فأرسل في طلب نسخ أربع أتته من مصر، وأخرى أتته من خراسان، ثم إنه حققها جميعًا من ست نسخ ليكتشف أن الرازي قد أخطأ فيها حقًّا.

والمثير للدهشة والإعجاب معًا أن هذا الملك العالم هو من وضع مداميك الدولة الرسولية ووطد أركانها، ووحد اليمن شمالًا وجنوبًا، ولك أن تتساءل بعد هذا: كيف وجد -إلى جانب كل هذه الإنجازات والانشغالات- وقتًا للكتابة والتأليف؟!

النهضة العلمية

ثم انظر في سيرة الملك عمر بن علي بن رسول، الذي كان له ما يقرب من أحد عشر مؤلفًا في الطب، وكذا الملك داود بن المظفر، وقد ولع بالأدب والشعر والكتابة فيهما، وهذا الملك كان مهتمًّا بالعلم، وله مؤلفات عديدة، منها في الطب البيطري، ومنها في الهندسة المعمارية، مثل (الأقوال الكافية والفصول الشافية) وهو كتاب مطبوع ويباع في المكتبات، وإن شئت فطالع سيرة الملك الأفضل عباس الذي كان داهيةً في علم التاريخ والأنساب، وعلى الرغم من هذا كله فقد كانت له أيضًا مؤلفات في العلوم الطبيعية.

ثم يطل علينا واسطة عقد الملوك الرسوليين في مجال التأليف وهو الأشرف إسماعيل بن الأفضل، باني المدرسة العملاقة التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، والتي تُعرف بـ”المدرسة الأشرفية”، وقد قرّب هذا الملك العلماء واستدعاهم من كل أصقاع الأرض، وكان له الكثير من المؤلفات والمصنفات في شتى ضروب العلم.

هؤلاء العلماء الملوك هم الذين شكلوا واسطة عقد تاريخ اليمن، وقادوا نهضة علمية فارقةً في تاريخه، ولا نحتاج إلى كثير ذكاء وفهم لندرك ما الذي حلَّ باليمن حين غاب مثل هؤلاء، ولماذا تسعى أطراف الفجور السياسي والمذهبي في اليمن إلى نشر الجهل ومحاربة العلم والعلماء.