ووصلت لعامي الخامس والثلاثين!

كنت قد عُدت لتوي من الخارج ومرهقة بشكلٍ غريبِ استلقيت على سريري بدون جهازي اللوحي ولم أفعل شيئاً ويا له من شعور ثم تأملت بتمعن يدي، وفوجئت بأنها متغيرة عن سنيّ الشباب الأولى وفهمت أني طوال هذه المدة لم اتأملها! سرحت في الخطوط الرفيعة على يدي ولأول مرة أعترف لنفسي باستسلام إنها آثار الزمن!

منذ شهر ونيف كنت قد وصلت لعامي الخامس والثلاثين، وأشعر بصراحة بغرابته وبثقله، إن له صدى مدوياً عن سابقيه بالنسبة إليّ، ربما الرابع والثلاثين كان أخف وطئاً عليّ، أما الثالث والثلاثين فكان ربما لطيفاً وموسيقياً أيضاً كسن وليس كعام!

عندما أستعيد ذكرياتي عند حديثي مع زوجي وأطفالي، تفاجئني المسافة الزمنية التي يبعدها حدث في الماضي عن عمري الحالي، فعندما كنت في الروضة هذا يعني منذ ثلاثين عاماً! أما عند انتقالي مع والدي وإخوتي لبيتنا الجديد فقد كان هذا منذ ثلاثة وعشرين عاماً، أما ثانويتي العامة فقد كانت منذ تسعة عشر عاماً، وسنتي الثانية في الجامعة رغم أنها حاضرة وكأنها قريبة، إلا أن عدد السنوات يصدمني مجدداً وهو سبعة عشر عاماً، وفي كل مرة اكتشف الفارق أصمت لوهلة وتتسع عيناي دهشة، وأشعر بغصةِ لا يكترث لها أحد، يبتسم زوجي آخذاً الأمر على محمل الهزل كعادته: إذن ماذا ستفعلين عند تخطى الأربعين؟!

يمضي بنا الزمن على غفلةِ، كمركب هزته الريح فتحرك بخفة عن شاطئ البحر

لا يتوقف الأمر عند الذكريات، فحتى العلاقة بالأصحاب قد باعدنا الزمان والمكان فلم أرهن منذ أكثر من عشر سنوات، هذا غير الأقارب، كل منا قد تزوجت وأصبحت تدور في فلك حياتها، وتستمر الايام تزيد أعمارنا وتزيد همومنا وأعباءنا وأفراحنا ربما!

يمضي بنا الزمن على غفلةِ، كمركب هزته الريح فتحرك بخفة عن شاطئ البحر، وتشارك ركابه لحظاتهم السعيدة والحزينة وعندما انتبهوا ونظروا خلفهم، وجدوا الشاطئ بعيداً عنهم، حتى انه يظهر لعيونهم بصعوبة، هناك من يستسلم لهذه الحقيقة، حقيقة الحياة والموت ومرور السنوات سراعاً، وربما هناك من يتعجب ويتقبل ذلك بشكل فلسفي حزين..

مرور الزمن عجيب للغاية، كيف تصبح السنوات التي مضت مختزلة في بضع لحظات نتذكرها!

بعد ولادة ابني الثاني كان أبي ينصحني في تربية ابني البكر، وقال لي ستجدينه مراهقاً في غمضة عين، وكرر مع ايماءة بيده “غمضة”، لم تمر تلك السنوات بسرعة، مرت ثقيلة مليئة بتحديات وأحزان وافراح واشياء كثيرة، لكن من موقعي الآن وقد أصبح ابني مشرفاً على مراهقته، فإنها تصبح كلها كومضة!

أحياناً أشعر أن الحياة تجعلنا نجري، ونلهث، وتفوتنا أشياء كثيرة ولا تكفينا الاستراحات القصيرة لالتقاط الأنفاس، أحياناً لا أستوعب هذا العمر، أحدث نفسي القابعة بين جوانحي فأجدها كما كنت أحدثها في سني الرابعة عشر، أشعر أن بداخلي طفلة تضجر من كل هذا الضجيج وهذه الأعباء، تريد مساحة للعب، وللتفكير في عالم وردي كعالم البنات في سبيستون، عالم يخلو من الخبث والمشاكل والحروب والهموم والإرهاق حتى!

ماذا عن الزمن اليومي؟ أياماً كثيرة أتمنى لو أن اليوم اكثر من 24 ساعة، فهذه الاربع والعشرون تغيظني عندما أتمنى إنجازا أكبر أو وراحة أكثر او وقتاً أكبر لأي شيء، ومن فرط غيظي أعاند النوم؛ فيتسلل لعيني وأقاومه، حتى يغلبني بعد انهاك!

مرور الزمن يعني فقد الأحبة خلال رحلة الحياة، وبعد كل فقد أخاف الموت أكثر، لن أخاف إن خطفني أنا؛ لكني أخشى خطفه لأحبائي، كنت دائماً أتجنب التفكير فيه، ولكن بعد وفاة خالي الحبيب رحمه الله منذ أشهر- وقد كان طبيباً لامعاً وأديباً مفوهاً وإنساناً مرهفاً قبل كل شيء- بعد وفاته بدأت أفكر في الموت، في هذه النهاية التي هي حق على كلِ إنسان، سأموت يوماً لا مهرب، فقد ماتت أجيال من قبلي، ورحلوا إلى خالقهم، وستكرر سنة الله هذه في خلقه حتى يأذن الله بقدوم يوم الحساب، وكل ما أرجوه أن أكون في زحمة كل هؤلاء البشر وحكاياهم ذات بصمةٍ مميزة، وأن يرضى الله عني فمآلنا إليه وحده.