لقاحات كورونا تكشف أزمة الملكية الفكرية

لقد كان أحد أبرز الأمور خلال جائحة كورونا هو السباق السياسي والاقتصادي بين الدول للتوصل إلى لقاح، فكان أول إعلان من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر أغسطس 2020 أن لقاحا تم تطويره في روسيا وأن ابنته أخذت اللقاح، وتوالت التصريحات بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب والرئيس الروسي عن اللقاحات، وكذلك التنافس بين الشركات المنتجة، فقامت الدول الغنية بالتعاقد المسبق والمشروط مع الشركات قبل وخلال المراحل السريرية لإنتاج اللقاح، وحجز كميات من اللقاح تزيد عن حاجة هذه الدول بأضعاف كثيرة، وبالتالي أدى ذلك الى حدوث فجوة بين دول العالم، فجوة في الإنتاج وكذلك فجوة في التوزيع.

وسبب هذه الفجوة هو زيادة القيود لحماية الملكية الفكرية للشركات المصنعه، حيث تم تشديد هذه القيود في اتفاقية التربس، فما هي اتفاقية التربس؟ وما علاقتها بأزمة لقاحات كورونا؟

ولاحظنا التصريحات المبكرة من قبل الشركات والحكومات في سباق اللقاحات، حيث قامت الدول الكبرى مثل أمريكا ودول أوربا بشراء كميات لقاح تزيد عن حاجتها

لقد أدى انفتاح الأسواق العالمية في نظام العولمة إلى قلق الشركات الكبرى على منتجاتها، مثل شركات القطاع الصحي، ونتيجة لذلك قامت الشركات الكبرى بتقديم طلبات للحكومة الأمريكية بإضافة مزيد من القيود على الملكية الفكرية لكي تضمن هذه الشركات إنتاجها في دول العالم، فقامت منظمة التجارة العالمية في عام 1994 بعقد اجتماع عالمي في مدينة مراكش وتم توقيع الاتفاقية المعروفة بـ التربس.

وهي اتفاقية حول الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية، وفي هذه الاتفاقية تمت إضافة المزيد من القيود على الملكية الفكرية، من بينها أن تمتد الحماية للملكية الفكرية لأكثر من 20 سنة لحماية براءات الاختراع وكذلك 20 سنة لحماية المعلومات السرية وبنود أخرى مفصلة على موقع منظمة التجارة العالمية، وقامت أكثر من 140 دولة بالتوقيع على هذه الإتفاقية، حيث الزمت هذه الاتفاقية الدول الأعضاء بإجراء تعديل للقوانين الداخلية لهذه الدول لكي تواكب قوانين حماية الملكية الفكرية العالمية حسب اتفاقية التربس، وبالتالي أصبحت الدول الأعضاء أسيرة قوانين الملكية الفكرية للشركات الكبرى وبالتالي منحت حصانة وحماية مستقبلية للشركات الكبرى واحتكارا للتجارة لها ليس فقط على مستوى القطر بل على مستوى العالم.

لذلك وبناء على هذه الحقوق للشركات المنتجة، تسابقت الشركات والدول منذ بداية الأزمة في السباق نحو الأبحاث للتوصل لتسجيل لقاح، ولاحظنا التصريحات المبكرة من قبل الشركات والحكومات في سباق اللقاحات، إذ قامت الدول الكبرى مثل أمريكا ودول أوربا بشراء كميات لقاح تزيد على  حاجتها، فيما قامت بعض الدول بالتعاقد مع الشركات قبل البدء بالأبحاث السريرية وخلالها، فحسب المركز العالمي للابتكار في المجال الصحي في جامعة ديوك الأمريكية، قامت الحكومة الأمريكية بحجز ما يقارب 1.1 مليار جرعة من 6 لقاحات تحت مراحل أبحاث مختلفة، وبالتالي تقوم الشركات بالإنتاج لتوفير هذه الكمية التي تم التعاقد عليها، ولكن الشراء المسبق وشراء كميات تفوق الحاجة، أدى إلى البطء في عملية الأبحاث والتصنيع واحتكارها للدول الغنية التي قامت بالتعاقد المبكر وبكميات فوق حاجتها، وبالتالي أدى ذلك إلى حدوث فجوة عالمية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، مع العلم أن الدول ذات الدخل المتوسط والعالي تشكل ما يقارب 20% من سكان العالم، حيث قامت هذه الدول بحجز ما يقارب 6 مليارات جرعة، بينما الدول الأخرى تشكل ما يقارب 80% من سكان العالم، ومع هذا قامت بحجز ما يقارب 2.6 مليار جرعة.

وسبب هذه الفجوة سواء في الأبحاث والتصنيع والإنتاج هو قيود الملكية الفكرية، واحتكارها لعدة شركات، لذلك وخلال أزمة كورونا قامت بعض الدول مثل الهند وجنوب أفريقيا بتقديم طلبات لمنظمة التجارة العالمية، تطالب برفع قيود حماية الملكية الفكرية التي تم التوقيع عليها في اتفاقية التربس عام 1994، والسماح للدول بأن تباشر بعملية تصنيع لقاحات ليس لها حقوق ملكية فكرية، وتم دعم هذه الدعوات من قبل ما يزيد عن 100 دولة في العالم كانت موقعة على هذه الاتفاقية، وكذلك من قبل هيئات ومؤسسات صحية، ولكن تم رفض هذه الطلبات من قبل بعض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية مثل أمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى رفض الشركات لتخفيف أو رفع قيود الملكية الفكرية، لأن ذلك سيؤدي إلى خسائر مادية لهذه الشركات.

وهنا يكمن الفرق بين وجهة النظر الرأسمالية إلى الملكية الفردية ونظرة الإسلام إلى الملكية الفردية

مازالت القيمة المادية تسيطرعلى هذه الأزمة، سواء السيطرة على مراحل الأبحاث للتوصل إلى لقاحات أمنة وفعالة، أو في أزمة احتكار عملية التصنيع والإنتاج بسبب حماية حقوق الملكية الفكرية أو حتى عملية توزيع ما تم إنتاجه من لقاحات وإحداث فجوة عالمية بسبب الاحتكام إلى المنفعة المادية ووضع عملية التصنيع والتوزيع أسيرة تحت قيود الملكية الفكرية، وللأسف كل ذلك سيطيل في أزمة كورونا.

لذلك وجب على كل دول العالم التعاون لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية، ووجب على دول العالم اعتماد لقاح اّمن وفعال يستوفي المراحل العلمية في البحث العلمي، ويمكن أن يتم ذلك في حالة عدم اتخاذ المقياس المادي في الاحتكام إلى الطرق المتبعة في حل الأزمة وكذلك التخفيف من قيود الملكية الفكرية وفتح مجال التصنيع والإنتاج لكافة دول العالم وتحريرها من اتفاقية التربس الموقعة عام 1994.

وهنا يكمن الفرق بين وجهة النظر الرأسمالية إلى الملكية الفردية ونظرة الإسلام إلى الملكية الفردية، حيث نظم الإسلام قوانين الملكية ضمن نظام متكامل، وسأتحدث عن ذلك وعن هذه الفروق إن شاء الله في مقال اّخر لضيق المساحة في هذا المقال.