د. محمد حسين هيكل رائد الأدب الذي كافأته السياسة

محمد حسين هيكل

كان الدكتور محمد حسين هيكل باشا (1888ـ 1956) واحدا من ألمع شخصيات عصره وأنبههم وأبلغهم أثرا، وقد وصل إلى قمة الحياة الحزبية رئيسا لثاني الأحزاب المصرية أهمية (أو ثالثها على أقل تقدير)، كما وصل إلى قمة الحياة البرلمانية رئيسا لمجلس الشيوخ منذ 1945 ولمدة 6 سنوات، ووصل إلى الوزارة مرات متعددة، كما كان واحدا من أبرز الكتاب إنتاجا وتأثيرا وجمهورا.

وهو -بلا جدال- واحد من أبرز رواد الأدب العربي الحديث، وقد حقق الريادة من زوايا عدة: في الشكل والتقنية والمقاربة والموضوع، واقترنت ريادته الأدبية بتوجهاته وأمانيه الوطنية والسياسية على نحو نادر لم يُتح لغيره بالقدر ذاته، كما أنه وظف قلمه وأسلوبه وأدبه ومقاله في خدمة الحياة الحزبية بمعناها الكلاسيكي التقليدي. وإذا عرفنا أنه ظل طيلة حياته عضوا في حزب الأحرار الدستوريين حتى أصبح زعيما له، وأنه بقي حتى 23 يوليو 1952 وهو زعيم لهذا الحزب، فسندرك أن هذا “الأديب” كان مؤمنا إيمانا حقيقيا بالديمقراطية والحياة الحزبية، حتى إنه لم يجعل هذه الحياة وسيلة من وسائل السياسة، وإنما جعلها قرينة للسياسة،  حتى بدا كأن السياسة والحزبية قد توحدتا معا في ممارسته لهما.

قيمته الفكرية وريادته لأكثر من مجال

كان الدكتور محمد حسين هيكل باشا كاتبا سياسيا وحزبيا قديرا، وقد تناول القضايا الدستورية والحكومية والاجتماعية، منطلقا من آفاق فكرية تقدمية وقادرة على الإحساس بالمسؤولية، وكان واضح العبارة سليم المنطق، وقد اعتز بالمشاركة في الصحافة والكتابة، كما كان حريصا على صورته وسلوكياته. وقبل هذا فإنه بمنطق الخلود كان بمثابة الرائد في فنون السرد والرواية والتراجم والتجربة الذاتية والرحلات، ويفوق هذا في الأهمية أنه الذي كتب الإسلاميات علي النحو الذي كتبها به قبل غيره، فكان الرائد الواثق في هذا الطريق.

ويبدو لنا أن قدرة هيكل علي الرؤية الكلية لقضايا المجتمع والثقافة والأدب والارتقاء كانت تفوق رؤية العميدين العملاقين العظيمين العقاد وطه حسين، وكان لهذا التفوق في الرؤية أسباب عديدة، منها بالطبع موقعه المتقدم في الحياة الحزبية، وذلك على الرغم من أنه لم يسمح للحزبية أن تسيطر علي كتاباته وآثاره الأدبية علي نحو ما سمح الرجلان الآخران بكل عظمتهما، لكنه من ناحية أخرى لم يُظهر انتماءه الحصري للأدب مثلهما على النحو الذي كان كفيلا له بأن يُمكّنه من احتلال القمة أو المنافسة عليها. ولا تزال لأعمال الدكتور هيكل باشا قيمة فكرية كبيرة لا تقل عن قيمة أعمال الرواد المعاصرين له والمتعاصرين معه، غير أن قصور قراءات المعاصرين في شؤون الثقافة ومحدودية آفاق الكتابة في تاريخ الأدب والثقافة تجعل كثيرين يقتصرون على الاكتفاء بترديد اسم أو اسمين على نحو ما يفعل غيرهم فحسب.

ومع أنه ليس من السهل أن نوجز الحديث عن قيمة هيكل الفكرية بأسلوب تصويري واحد، نظرا لما في هذه القيمة من تعددية وتنوع، فإننا نستطيع أن نتنقل في الحديث عن هذه القيمة من خلال زوايا متآزرة تنصف الرجل والمكانة التي يستحقها، من وجهة نظرنا التي تذهب في وصف قيمته إلى القول بأنه كان على أقل تقدير واحدا من أهم عشرة مفكرين عرب في العصر الحديث.

نشأته وتعليمه

وُلد الدكتور محمد حسين سالم هيكل في 20 أغسطس 1988 في قرية كفر غنام بمحافظة الدقهلية لأبوين من وجوه الريف المصري، وهو العام نفسه الذي وُلد فيه زعيما حزب الهيئة السعدية: أحمد ماهر (1888- 1945) والنقراشي (1888- 1948)، وأتمّ دراسته الابتدائية في مدرسة الجمالية بالقاهرة عام 1901، ثمّ المدرسة الخديوية التي حصل منها علي البكالوريا (19٠5). وكانت الدفعة التي ينتمي إليها الدكتور هيكل أول دفعة تؤدي امتحان الشهادة البكالوريا بعد أربع سنوات (بدلا من ثلاث) من الدراسة في تلك المرحلة الثانوية، فمدرسة الحقوق (1908).

ارتباطه بأحمد لطفي السيد والجريدة
حين صدرت «الجريدة» برئاسة أحمد لطفي السيد، كان الدكتور محمد حسين هيكل من كتابها وهو لا يزال طالبا بالحقوق، ومن الجدير بالذكر أن الجريدة كانت مقدمة لتأسيس حزب الأمة (1907) الذي تأسس بعدها. وبعد تخرجه سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، فحصل عليها برسالة عنوانها «دين مصر العام». وفي الوقت ذاته، فإنه بدافع من الحنين إلى مصر كتب وهو في الغربة روايته «زينب» (1913)، وكتب على غلافها أنها من تأليف فلاح مصري، في الوقت الذي كان من المعروف على نطاق واسع أنه هو ذلك الفلاح.

زملاؤه في الجامعة وفي الحياة الصحفية المبكرة

كان من العلماء الذين تزاملوا في الحقوق -وقت انتظام الدكتور هيكل في الدراسة بها- عَلَمان من أعلام القانون، هما الأستاذ أحمد أمين عميد الحقوق والمستشار بمحكمة النقض، وعبد الحميد أبو هيف الفقيه المصري العظيم الذي سبق أنداده جميعا إلى إثبات ذاته في أدبيات القانون بالعالم. ومن الطريف أن خمسة من هؤلاء الزملاء تولوا مناصب الوزارة في مصر، على اختلاف في تواريخ دخولهم إلى الوزارة، وكان أولهم الغرابلي باشا، الذي دخل الوزارة عند تشكيل سعد زغلول لها في يناير 1924، ثم أحمد ماهر، الذي دخل الوزارة قبل نهاية عهد وزارة سعد زغلول بشهر (أكتوبر 1924)، ثم هيكل باشا، الذي دخل الوزارة مع محمد محمود باشا في آخر أيام 1937، ثم عبد الحميد بدوي باشا، الذي دخل الوزارة في 1940، ومُنِح أقدمية خاصة جعلته كالذين دخلوها في 1925، ثم عبد الرحمن الرافعي، الذي دخل الوزارة بحكومة حسين سري في 1949 ضمن حصة الحزب الوطني. وكان حسن نشأت باشا زميلا لهؤلاء العلماء والوزراء، وأثّر في السياسة من خلال موقعه بالديوان الملكي والسلك الدبلوماسي، وإن لم يتولّ منصب الوزير.

ويبدو للمتأمل أن الدكتور هيكل ظل متمسكا بخلق التوسط بين هذه الشخصيات، فهو في السياسة إن بدا أقل لمعانا من أحمد ماهر فقد كان أكثر لمعانا من الغرابلي والرافعي، وإن يكن إنتاجه في تأريخه للفترات التي عاشها أقل من الرافعي، فهو أكثر بكثير من أحمد ماهر وعبد الحميد بدوي والغرابلي، وهو إن كان أقل طموحا ومقامرة من ماهر، فإنه كان أكثر طموحاً من الرافعي، وهو إن يكن أكثر ميلا إلى اليمين في تفكيره السياسي من الرافعي وأحمد ماهر بـ”تياسرهما” الواضح أو المزعوم ، فإن عبد الحميد بدوي والغرابلي كانا يتفوقان عليه في ميلهما إلى اليمين التقليدي، وهكذا.

ولاؤه المستمر للأحرار الدستوريين

حين قامت ثورة 1919 شارك الدكتور محمد حسين هيكل فيها، لكنه سرعان ما آثر جانب عدلي يكن والأحرار الدستوريين، ثم اختير عضوا بالأمانة العامة للجنة التي وضعت دستور 1923.

وعقب إعلان الدستور، اشترك الدكتور محمد حسين هيكل في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين، كما رأس جريدة «السياسة» لسان حال الحزب الجديد، وظل الدكتور هيكل على ولائه للأحرار الدستوريين طيلة حياته، وقاد حملات الحزب ضد سعد زغلول باشا والوفد ممّا دفع به إلى المحكمة، ثم قاد أيضا الحملة على حكومة زيور والاتحاديين (1925- 1926).