سر السعادة

من منّا لا يمضي ليلة في التفكير عن حلول لحياته، تجلب له السعادة وتسكب على قلبه ماء الطمأنينة والسكينة ؟ من منا لا يمكث في غرفته من أجل أن يختلي بنفسه فيظل قابعا فيها إلى أن يتجاوز باب البحث عن حل لأمر أرق ذهنه و أقض مضجعه؟
 
لا شك في أن كلا منا يبحث عن السعادة من منظوره الخاص، فنحن البشر نتفاوت في درجة الإدراك و طريقة التفكير, فواحد يبحث عن سعادته في التميز و تحقيق نجاح مشاريعه، وواحد يبحث عنها في المال وتكديس الثروات و جمع الأسهم في البورصات و شراء الماركات العالمية.
وأن يتمتع بحياة البذخ والثراء. ومنا من يبحث عن سعادته في البحث المستمر عن فهم الذات المعقدة التي تسكن بداخله.
هل ما ذكر سابقا مما قد يحقق لنا السعادة الحقة، أم أنها خدعة أزلية نعيش عليها وكأنها حقيقة مطلقة؟
بيد أن السعادة تظل من المواضيع الإنسانية التي تمت مناقشتها من طرف الأديان السماوية وتيارات فلسفية عدة، لنجد أنها عالجت الموضوع من جوانب مختلفة ومتناقضة أحيانا .

 الإنسان الذي تحرر من قيود نفسه، ترسو سفينته على بر السكينة والاطمئنان، فيشرع في مساعدة الآخرين وخدمة مصالح مجتمعه

وكان أول من قدم مفهوم السعادة الفيلسوف اليوناني أرسطو، حيث اقترن تحقيق السعادة بارتباطها وتلاحمها مع نشر الخير ومساعدة الآخرين. وأكد أرسطو أن فكرة السعادة أمر يتم صنعه مع مرور الزمن فهو بالنسبة إليه أمر مكتسب من الطبيعة، لأننا لا نولد سعداء و إنما نصبح كذلك.
كما أشار الفيلسوف الفارابي إلى أن السعادة غاية في ذاتها، وهي عبارة عن لذة عقلية وليست بلذة حسية، لأنه يرى أن ربط السعادة بإشباع اللذات البدنية ما هو إلا فعل مشترك مع الحيوان، لذا يصبح الفعل العقل التأملي هو ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات.
و قد رأى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنه لا ينبغي الركض وراء السعادة على أنها شئ مستقل، وإنما هي نتيجة اتباع والتزام أخلاقي سليم ، فالسعادة عند كانط مرتبطة بالفضيلة و الأخلاق السامية.

لا ينبغي الركض وراء السعادة على أنها شئ مستقل، وإنما هي نتيجة اتباع والتزام أخلاقي سليم، فالسعادة عند كانط مرتبطة بالفضيلة و الأخلاق السامية.

إن طبيعة الإنسان تمدنا بمعطيات مختلفة لا يمكننا دحضها ولا نفيها، فالإنسان بطبعه يتوق إلى امتلاك كل ما يخطر على باله ويسعى دائما إلى تحقيق الأفضل والارتقاء بنفسه وبوضعه الثقافي والاجتماعي.
و لكن يظل السؤال يطرح نفسه ، هل يمكن للإنسان أن يشعر بسعادة مطلقة عن طريق تحقيق ما تريده نفسه؟
فلا وجود لشئ مطلق في عالمنا هذا، لا لذة مطلقة، لا صحة مطلقة ولا سعادة مطلقة.
كل هذا يدفعنا نحو البحث عن السعادة في ديننا الحنيف، فما هي السعادة بالنسبة للإسلام؟
إن السعادة في منظور الدين الإسلامي، ليست قاصرة على الجانب المادي فقط ولا يمكننا نفي أهميته في حياة كل فرد، إلا أنه وسيلة و ليس غاية في ذاتها.
كما جاء الإسلام بنظام متكامل و شامل يدفع الإنسان بالرقي بنفسه من أجل الوصول إلى السعادة الحقة.
 فوضع ديننا الحنيف لكل إنسان مجموعة من القواعد و النظم لضمان حياة سليمة متوازنة تحقق له جميع مصالحة الدنيوية و الدينية، حيث إن الإسلام يحافظ على ركائز الحياة كالنفس، العقل، المال و الدين، ووضح هذا الإسلام على أن الدنيا ليست سوى سبيل و سفر نحو الانتقال إلى حياة الآخرة الخالدة، إن الحياة الحقيقة التي يجب أن يسعى لها الإنسان هي الحياة الآخرة ، قال الله تعالى : “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.”.
و قال الله تعالى  “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ“.

السعادة تظل من المواضيع الإنسانية التي تمت مناقشتها من طرف الأديان السماوية وتيارات فلسفية عدة عالجت الموضوع من جوانب مختلفة ومتناقضة أحيانا

إن الإيمان الحق يجعل الإنسان مدركا  أن الحياة قصيرة وتحمل في طياتها تقلبات ولحظات تمر كصعق البرق،يخرج المؤمن من مساحته الضيقة والأنا التي تملكنا ونصبح أحيانا عبيد الملذات والشهوات العابرة.
 فالإنسان الذي تحرر من قيود نفسه، ترسو سفينته على بر السكينة و الاطمئنان، فيشرع في مساعدة الآخرين وخدمة مصالح مجتمعه.
 فمن يعيش لنفسه تصبح غايته محدودة وسعادته مؤقتة أما الذي يخدم غيره كما يخدم نفسه يعيش حياة مليئة بالبذل و العطاء، فالعطاء هو الذي يحدث الفرق بين البشر، يسعد القلب ويشفيه من ندبات أغلب الأمراض النفسية التي يعاني منها الكثيرون.
و لا يسعنا إلا أن نختم بخير حديث عن النبي ﷺقال ”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى“.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها