سر رمضان المستمر

شهر رمضان في ظل أزمة كورونا العالمية
شهر رمضان في ظل أزمة كورونا العالمية

ما إن يوشك شهر رمضان على الانتهاء حتى تختلج في نفس المسلم أحاسيس شتى، بل ربما أحاسيس متناقضة، ففي الوقت الذي يفرح فيه بقدوم العيد يحزن لفراق الشهر، ويشعر وكأن الشهر قد اختُلس منه اختلاسا فقد بدأ لتوه فما باله ينتهي سريعا؟
فكم كنا نحس فيه بكثير من العون والبركة والطاقة المضاعفة على العبادة ما لا نشعر به في باقي شهور السنة.
 وكيف لا وقد صفدت فيه الشياطين وغلقت أبواب النار وفتحت أبواب الجنة، فيشعر المسلم بانقضاء الشهر وكأن روحه تنسلخ من جسده، أو كأنه فقد أحدا من أعز الخلق لديه.
ولكن من رحمته -جل وعلا- بعباده أن جعل في اسم هذا الشهر سرا لو أدركناه لاستطعنا أن نحيا طوال العام في رمضان.
إذن فما رمضان وما معني هذا الاسم الكريم؟ فما سمي الشهر شهرا إلا لشهرته وبيانه ثم هو رمضان وهو المأخوذ من الرمض،أي الاحتراق من شدة حرارة الشمس على الأرض والحجارة لعدم نزول الماء حينها وتسمى الأرض بهذه الحالة الرمضاء فيقال أرمضته الرمضاء أي أحرقته من شدة حرارتها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: “صلاة الأوابين حين ترمض الفصال”، ويقال رمض الصائم إذا جف جوفه من شدة العطش.
ورمضان كما هو معروف عند أهل اللغة على وزن فعلان وهو وزن يدل على الحركة والاضطراب مثلما نقول غليان وفوران وهكذا.
وهنا ندرك المعنى الحسي في رمضان حين يصوم الصائم عن الطعام والشراب وباقي المفطرات فيجف جوفه من قلة الماء فيصبر ويجاهد نفسه حتى غروب الشمس فيكون أول ما تهفو إليه نفسه شربة ماء وربما لا يعنيه الطعام بعدها فلا شيء يعدل لذة الماء البارد على شدة الظمأ.
وهكذا يظل الصائم في مجاهدة حتى يكمل عدة الشهر فيرجع فيعيد نظره إلى الشهر فيتساءل كيف صمت الشهر؟

يظل الصائم في مجاهدة حتى يكمل عدة الشهر فيرجع فيعيد نظره إلى الشهر فيتساءل كيف صمت الشهر؟

كيف قمته وكيف جمعت بين كل تلك الطاعات بين صيام وقيام ونفقة وتلاوة قرآن وغيرها في هذا الشهر؟ فيأتيه الجواب من الله “ولتكبروا الله على ما هداكم”.
ومن أجمل ما قيل في تفسير هذه الآية ما ذكره الطبري بقوله: “ولتعظموا الله بذكره بما أنعم عليكم من الهداية، وخصكم بكرامه فهداكم له ووفقكم لأداء ما فرض عليكم من صوم وعبادة له، والذكر الذي خصه  تعظيمه له بالتكبير يوم الفطر” انتهى كلام الطبري.
ولقد صرنا الآن مع الأسف في زمن أصبحت فيه المجاهرة بالفطر في نهار رمضان أمرا مستساغا لدى البعض فأصبح شعور المسلم بنعمة الهداية أعظم فقد هداه الله ووفقه لكل تلك الطاعات في هذا الشهر بينما غيره لم يستطع كبح جماح نفسه عن المجاهرة بالفطر فضلا عن خذلانه عن الصوم في هذا الشهر.
وحينها يستشعر المسلم أن تكبيرات العيد ليست مجرد طقوس تربينا عليها وإنما هي تعظيم لله مستشعرين نعمة التوفيق منه سبحانه على إكمال العدة.
إلا أن المسلم الحق يعيش في رمضان طوال العام فهو في كل لحظة يصوم عن شهوات الدنيا وشبهاتها وفتنها فيظل يحترق بين ما تهواه نفسه بطبيعتها البشرية وبين ما يرضي ربه فيبقى على تلك الحال تحرقه رمضاء الدنيا _بينما هو حريص على إكمال العدة _حتى يلقى النبي -صلى الله عليه وسلم -على الحوض فيسقيه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
فإذا كان صيام رمضان من الفجر إلى الغروب فإن صيام الفكر عن شوارده وصيام القلب عن نواقضه وصيام العقل عن انحرافه وصيام الجوارح عن السيئات وصيام اللسان عن الآفات كل ذلك وغيره من فجر التكليف إلى غروب شمس العمر فهو صيام شامل ممتد.

يستشعر المسلم أن تكبيرات العيد ليست مجرد طقوس تربينا عليها وإنما هي تعظيم لله مستشعرين نعمة التوفيق منه سبحانه على إكمال العدة

ولكن الرحيم الرحمن لم يتركنا في رمضان الدنيا من دون سقيا بل أنزل لنا من السماء ماء تحيا به القلوب وتتصبر به فكان القرآن.
فالقرآن لقلب المؤمن كالماء للأرض قال تعالى: “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين “، فكما لا يحيا الإنسان حياة البدن الفانية إلا بالماء فكذلك لا يحيا حياة الخلد إلا بالقرآن فهو الروح الحق قال تعالى “وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا “والماء والقرآن نزلا من السماء وكلاهما له سر علوي وكلاهما الحياة.
فكما لا يصبر على رمض وعطش جسده، فلا حياة للمؤمن بدون القرآن قال تعالى” أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها “
وقال ” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم “.
فاللهم أعد علينا رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة، ونسألك يا ربنا ألا تصرفنا عن ماء حياة قلوبنا لنستعين به على رمضاء الدنيا حتى نكمل عدة الحياة فنكبرك ونحمدك في الجنة على ما هديتنا قائلين “الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها