الإعلام المصري والتهريج في ساحة العزاء

في الفيلم السينمائي الشهير “الكيف” يجلس الفنان يحيى الفخراني في ساحة عزاء أحد معارفه، لكنه لا يستطيع أن يكتم ضحكاته بعد أن تناول مخدرا أعطاه إياه شقيق زوجته، ليقوم بتوجيه كلمات من نوعية “أنا في غاية السعادة” و”عقبال عندكم جميعا” ويبدأ في وصلة من الضحك والتهريج انتهت بطرده من العزاء بعد أن سأله واحد من أهل المتوفى: حضرتك جاي تعزي ولا جاي تهرج؟ فأجاب: لا أنا جاي أهرج، لينفجر الحاضرون ضحكا.

لا تنفك أذرع النظام تمارس نفس هذا “التهريج” الذي مارسه يحيى الفخراني مع كل كارثة تصيب جزءا من أبناء مصر، فبعد مقتل عدد من المواطنين المسيحيين في سيناء، واضطرارهم إلى ترك منازلهم إلى محافظة الإسماعيلية هربا من بطش تنظيم ولاية سيناء، لم تترك وزيرة التضامن الاجتماعي الفرصة تمر لكي تثبت ولاءها، فصرحت أنه لا يوجد أي إخفاق أمني في سيناء –هل يوجد إخفاق أكبر من تهجير المواطنين- وأن الأسر ستعود إلى بيوتها خلال أيام معدودة. لكن تصريحها “التهريجي” الأكبر كان توجيهها رسالة للمواطنين المهجّرين قائلة لهم “اعتبروا نفسكم في رحلة للإسماعيلية” كأن مقتل عدد منهم واضطرارهم لترك منازلهم ومدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم وحياتهم بكاملها خلفهم عبارة عن رحلة أو نزهة لطيفة.

أما الكارثة الأكبر التي أصابت مصر خلال 2017 فكانت مذبحة مسجد الروضة التي راح ضحيتها أكثر من 300 مواطن، وهو ما استدعى استنفار كافة الأذرع السياسية والإعلامية والفنية لممارسة أكبر قدر ممكن من التهريج للتغطية على الأخبار الحزينة وساحات العزاء التي انتشرت في بيوت المصريين، فلم يجد نقيب الفنانين أشرف زكي حرجا –أو صفاقة في الواقع- من أن يصرح أنه أحضر “حلاوة المولد” للمصابين في المذبحة، وأنهم سعدوا بها كثيرا، كأن المصابين الذين فقدوا أبناءهم وأشقاءهم وآباءهم وأحباءهم في المذبحة ينتظرون حلاوة المولد منه.

المفارقة أن السيد أشرف زكي قال في نفس التصريحات إنه لم يبلغ وسائل الإعلام بالزيارة لأنه ذهب إلى هناك للاطمئنان على المصابين فقط من دون دعاية، لكنه لم ينتبه أنه بهذه التصريحات قد أخبر وسائل الإعلام فعلا! كما ظهر في تغطية وسائل الإعلام لزيارة عدد من المسؤولين والفنانين لقرية الروضة وحرص على الظهور وإلقاء تصريحات والتقاط الصور، وهو ما ينسف روايته عن إخلاصه الذي دفعه لعدم إخبار وسائل الإعلام بالزيارة! وهو التهريج نفسه الذي قامت به الممثلة فردوس عبد الحميد عام 2012، عندما التقت إحدى السيدات المكلومات من أسر شهداء الثورة، لكنها بدلا من أن تعزيها إذا بها تبتسم ابتسامة واسعة أمام الكاميرات التي كانت تصور المشهد، لتظهر صورة في قمة التناقض بين سيدة مكلومة وأخرى تضحك ولا تقيم وزنا لمشاعر الحزن.

فيما حاول أحد أعضاء ما يسمى “مجلس النواب” أن يصور الأمر كأنه إنجاز، فصرح أن أهالي القرية يحبون الموت أكثر من الحياة ولذلك استجاب الله لدعائهم! مضيفا أنهم “استشهدوا حبا في مصر والقوات المسلحة والسيسي” ولم يكن ينقص إلا أن يدعو النائب إلى الاحتفال بالكارثة بدلا من تقديم العزاء للأهالي في مصابهم، ولنا أن نتخيل رد فعل النائب إذا أصيب أحد من أهل بيته في المذبحة لا قدر الله، هل سيعتبر الأمر موضوعا يستحق الاحتفاء أم لا، وهل سيقول وقتها إن المذبحة حدثت “حبا في مصر والقوات المسلحة والسيسي” أم سيشعر بحقيقة المأساة التي شعر بها أهالي الروضة.

وقد شهدت الانتخابات الرئاسية خلال الأيام الماضية توافر كميات كبيرة من التهريج وانعدام الإحساس لدى أذرع النظام، فرغم أن الانتخابات في حد ذاتها ليست حدثا مأساويا، إلا أن أذرع النظام تعاملت بنفس منطق التهريج مع عدة مواقف مأساوية حدثت خلالها.

فقبل الانتخابات انتشرت صورة لإحدى السيدات وهي تحمل زوجها المريض على ظهرها منذ 3 سنوات لتذهب به إلى الأطباء لمتابعة حالته، لأنها سيدة فقيرة لا تملك أن تشتري كرسيا متحركا لزوجها، وبدلا من أن يتدخل أحد ويحل مشكلتها المأساوية والبسيطة في نفس الوقت، إذا بـ”عبد الرحيم علي” النائب البرلماني يعقد مؤتمرا لدعم السيسي في الانتخابات ويحضر السيدة إلى المؤتمر وهي تحمل زوجها مستغلا تعاطف الناس معها بعد انتشار قصتها، دون أن يفكر في حل مشكلتها البسيطة ويحضر لزوجها الكرسي المتحرك الذي يحتاجه.

عرض “عبد الرحيم” السيدة وزوجها كأنهما أصبحا “فرجة” أمام الناس، ليسألها عن “مدى حبها للسيسي” لتجيب السيدة المسكينة بأنها تحبه وسوف تنتخبه، وهو ما كان يريده النائب ليحقق ما يريده من دعاية لأسياده، من دون أن يدري أن وجود مثل تلك السيدة وحالتها هو أكبر إدانة للنظام وأكبر دليل على تردي حالة المصريين لدرجة أن السيدة أصبحت تحمل زوجها وتعاني أشد المعاناة في المواصلات والشوارع لعلاج زوجها الذي أصابه المرض بسبب المياه الملوثة والخضروات المسرطنة.

أما أثناء الانتخابات نفسها، فقد انتشرت قصة إحدى السيدات المشاركات التي صرحت بأن زوجها هددها بالطلاق إذا شاركت فقالت له إنه يمكن تعويضه أما مصر فلا يمكن تعويضها، وبدلا من إبداء مشاعر الحزن على البيت الذي خرب بسبب الانتخابات إذا بوسائل الإعلام تحتفي بالخبر كأنه إنجاز عظيم، كأنها توجه رسالة للمصريين أن اخربوا بيوتكم بأيديكم من أجل مصر.

وقد تكررت مشاهد المتاجرة بالمعاقين والمرضى والعجائز في الانتخابات من جانب وسائل الإعلام التي صورت كيف حرص هؤلاء على المشاركة رغم حالتهم الصحية المتردية حبا في مصر، لكن عددا كبيرا من الصور والفيديوهات فضحت كيف تتم صناعة تلك المشاهد عبر إحضار مواطنين أصحاء والاتفاق معهم على الجلوس على كراسي متحركة والتصوير معهم أمام الكاميرات باعتبارهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وبمجرد الانتهاء من التصوير يقوم هؤلاء الأشخاص من مقاعدهم ويعودون أصحاء كما كانوا ويتم استرجاع الكرسي المتحرك مرة أخرى انتظارا لفبركة مشهد آخر.

فيما كان المشهد الرئيسي للتهريج، والنموذج المشابه لمشهد يحيى الفخراني في فيلم الكيف، من نصيب مصطفى بكري، الذي أشاد بوفاة أحد المواطنين أثناء مشاركته في الانتخابات! قائلا إن الأخير لم يستمع لنصائح الأطباء وأصر على المشاركة من أجل مصر، قائلا إن هذا “نموذج للشعب المصري المخلص الذي يحرص على مصلحة وطنه ولديه انتماء كبير”!

إذا كان مشهد فيلم “الكيف” يثير البهجة والضحك عند مشاهدته فذلك لأننا نعرف أنه مشهد تمثيلي خيالي لا يمت للواقع بصلة، لكن الإعلام المصري والنخب السياسية والإعلامية والفنية يقومون بنفس ما قام به يحيى الفخراني ولكن على أرض الواقع، وهو أمر لا يستدعي الضحك بل السخط على هؤلاء الذين حولوا ساحات العزاء إلى أفراح ومادة للتهريج لإثبات ولائهم للنظام.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها